مضى27 عامًا على أول انتفاضة شعبية أشعلها
الفلسطينيون ضد الاحتلال الإسرائيلي، استخدموا فيها "طوب الأرض" سلاحًا، قذفوه في وجه عدوّهم المدجَّج بالرشاشات الآلية، مبتدعين طرقًا جديدة في محاربة المحتلّ ورفض الظلم بـ"الحجر"، في فدائية وقف العالم مندهشًا أمامها، وشكّلت أنموذجًا أمام باقي الشعوب التي استخدمت "الحجر" في رفض ظلم الدولة.
كانت الشرارة لاندلاع الانتفاضة الأولى (
انتفاضة الحجارة) في الثامن من كانون الأول/ ديسمبر 1987، حين دهست شاحنة يقودها مستوطنٌ سيارةً يركبها عمال فلسطينيون من جباليا، متوقفة في محطة وقود، ما أدى إلى استشهاد أربعة أشخاص وجرح آخرين.
واندلعت مواجهات بين المواطنين وقوات الاحتلال أثناء تشييع جنازة الشهداء في اليوم التالي، وألقى الفلسطينيون خلالها الحجارة على موقع لجيش الاحتلال في جباليا، وردّ جنود الاحتلال بإطلاق النار دون أن يؤثر ذلك على الحشود.
ولم يُبدِ الاحتلال أي اهتمام حقيقي بالأحداث والمواجهات؛ ظنًّا منه أنها مجرد حركة احتجاج ستنقضي سريعًا مع الأيام، إلا إنَّ تعاقب المواجهات واشتدادها يومًا بعد يوم أجبر رئيس وزراء الكيان المحتل آنذاك، إسحاق رابين، على التأكيد أمام "الكنيست" أنه سيفرض القانون بالقوّة.
وانتقلت الانتفاضة لتشمل سائر مناطق قطاع غزة بأكمله ومدن الضفة، وصولا إلى القدس المحتلة.
وأمام ما تعرض له من الحجارة وزجاجات "المولوتوف" طلب الجيش الدعم، وهو ما شكل أول شرارة للانتفاضة.
وتنوعت الأساليب القمعية ضد أبناء الانتفاضة، ما بين القتل والاعتقال والإبعاد، وهدم المنازل واقتحام المؤسسات وإغلاقها، وحظر التنظيمات، ومنع السفر، وفرض حصار اقتصادي خانق على الضفة الغربية وقطاع غزة.
وبرغم تصاعد البطش الإسرائيلي ضد الفلسطينيين إلا أنَّ الانتفاضة ازدادت اشتعالًا يومًا بعد آخر، وانتشرت رقعتها لتشمل كل الأراضي المحتلّة في الضفة الغربية وقطاع غزة كافة، ليضطر الاحتلال لاستدعاء قوات حرس الحدود كي تشارك جيشه النظامي في مواجهة المنتفضين.
ومع تصاعد وتيرة الأحداث، أعلن إسحق رابين، خلال كلمة في الكنيست، فرض القانون والنظام في الأراضي المحتلة، قائلاً "سنكسر أيديهم وأرجلهم لو توجب ذلك".
ولم تتوانَ سلطات الاحتلال عن استخدام كافة الوسائل المحرّمة دوليًا في محاولة إخماد تلك الانتفاضة وأصوات المشاركين فيها.. وكان من ذلك استخدام الرصاص بكافة أنواعه، وقنابل الغاز، والقيام بـ"سياسة تكسير العظام" وغيرها.
وفي فبراير العام 1988 وصلت الانتفاضة إلى أعلى مستوياتها بعدما نشر صحافي صورًا لجنود إسرائيليين يكسّرون أذرع فلسطينيين عزّل كانوا يلقون الحجارة في نابلس، ما أشعل الغضب في صفوف الشعب وزاد من حدّة المواجهات، وضمن تعاطفًا شعبيًا دوليًا واسعًا مع الفلسطينيين.
وأطلق عليها الفلسطينيون اسم "انتفاضة الحجارة" لتعبر عن مدى التفاوت الواضح في قوة جيش الاحتلال بسلاحه الآلي ومدافعه المتعددة، أمام طفل أو شاب فلسطيني يحمل حجرًا.. حيث إن الحجارة كانت الأداة الرئيسة فيها.
وقد كان للأطفال دور كبير في الانتفاضة، حتى أطلق عليها انتفاضة "أطفال الحجارة" في وجه جنود الاحتلال المدجَّجين بالأسلحة الرشاشة، فقد كانوا يقيمون حواجز بالعجلات المشتعلة، وتولوا توزيع المنشورات التي تدعو الجماهير للتظاهر والغضب مشكلين "إعلامًا بديلًا" في ظل سيطرة الاحتلال على وسائل الإعلام وتضييقها على الصحفيين.
وتطوّرت أسلحة المقاومة على مدار المواجهة مع الاحتلال، بدءًا من الحجر مرورًا بالسكاكين والرشاشات، وصولًا إلى الصواريخ التي قصفت قلب "تل أبيب"، إلا أنَّ "الحجر" بقي السلاح الأساس لكل فلسطيني أينما وجد.
ففي كل يوم تندلع فيه المواجهات في الضفة الغربية والقدس المحتلّة يخرج عشرات الفلسطينيين يرشقون جنود الاحتلال بالحجارة، غير آبهين بأسلحتهم الرشاشة ولا وسائل قمعهم التي تتجاوز القوانين والمواثيق الدولية، ما شكّل صداعًا كبيرًا لدى أجهزة أمن الاحتلال، ما استدعى سنّ قوانين جديدة تفرض المزيد من العقوبات لردع الفلسطينيين.
وابتكر الشعب حينها ما سمي بـ"إعلام الانتفاضة" لتوصيل صوتهم للعالم الخارجي وللسكان في الأرض بعد فرض الاحتلال إجراءاته الصارمة على الصحف التي كانت تصدر في الأراضي المحتلة، لتظهر "المناشير" والملصقات والكتابة على الجدران في كافة مناطق الضفة الغربية وقطاع غزة.
واستمرت الانتفاضة الأولى سبعة أعوام متتالية، استشهد خلالها حوالي 1300 فلسطيني على يد جيش الاحتلال، كما إنه قتل خلالها 160 "إسرائيليا" على يد المقاومة الفلسطينية.
ولا تزال سلطات الاحتلال تبذل جهدها في قمع الفلسطينيين منذ احتلال الأرض في نكبة العام 1948، إلا إنها في كل يوم تجد الفلسطينيين أقوى وأشد ثباتًا وتجذرًا في هذه الأرض.