لعل السؤال الذي يطرح ذاته على كل
مصري منذ وقوع
الانقلاب حتى الآن، هو كيفية الخروج من المأزق والانقسام الذي نعيشه؟
من المؤكد أن الذين قاموا بالانقلاب والقوى المتحالفة معه، التي قدمت له الغطاء لتبريره، وصبغه بالصبغة الشعبية، لم يكونوا يتوقعون بأي حال من الأحوال أن تستمر مناهضة الانقلاب كل هذه المدة، وأقصى ما توقعوه أن تندلع بعض المظاهرات من جانب
الإخوان، ثم ينتهي الأمر خلال أيام أو عدة أسابيع على أقصى تقدير، ثم تركن الجماعة إلى التعامل مع الواقع حسب ما هو معروف عنها من انتهازية كما يرميها بها خصومها وأعداؤها.
أما على جانب الإخوان فأعتقد أن رد الفعل المناهض للانقلاب، كان أكبر من توقعات الإخوان من حيث حجم الاحتجاجات والمشاركين فيها من مختلف فئات الشعب وليس الإخوان فقط، والذين رأوا فيما جرى انقلابا على مسار الديمقراطية، وعودة للحكم
العسكري بما جرّه على مصر من كوارث ونكبات.
وهكذا وجد الانقلاب نفسه في أزمة، ولم تستقر له الأمور بسرعة كما كان يتوقع، كما أنه لم يكن على استعداد للتراجع عما خطط له، بينما تمسك الإخوان بالشرعية وعودة المسار الديمقراطي، وإن أبدوا استعدادهم للتفاهم وعرض كل الأمور للمناقشة بعد عودة الشرعية.
وقد كتبت منذ عام مقالاً ذكرت فيه أن هناك أربعة خيارات أمام الطرفين وهي:
"الخيار الأول: استمرار سياسة العسكر في ترسيخ الأمر الواقع وفرضه واستخدام الشدة والعنف، والمضي قدماً في فرض خارطة الطريق، وهى سياسة قد تطيل أمد الانقلاب لبعض الوقت، ولكنه لن يحقق أهدافه على المدى البعيد.
الخيار الثاني: هو استمرار وتصاعد حركة المقاومة السلمية، وازدياد الضغط الشعبي بما قد يؤدى إلى انهيار الانقلاب وعودة الشرعية كاملة.
الخيار الثالث: أن يدرك الطرفان أنه لا سبيل إلا بالحوار والوصول لحل سياسي للأزمة الحالية، وإن كان هذا الخيار تقابله مشكلات متعددة، خاصة مصير من قاموا بالانقلاب والمسؤولية عن الدماء التي أهدرت.
الخيار الأخير هو تنحي السيسي وصدقي صبحي، وتولي قيادة جديدة للتفاوض في ظل الحفاظ على تماسك القوات المسلحة التي يحرص كل وطني غيور عليها
وفي كل الأحوال فإن الخيار الأفضل هو نجاح الثورة الشعبية في كسر الانقلاب، وتولى الأمر دون أي شروط أو قيود واستكمال ثورة يناير25، واعتبار يوم نجاح الثورة ضد الانقلاب هو يوم 2ا فبراير 2011".
هذا ما ذكرته منذ عام والآن بعد أكثر من 16 شهر على وقوع الانقلاب، وما شهده من أحداث وتطورات يمكن الوقوف عند كل خيار من هذه الخيارات ومناقشتها بعد عام من طرحها.
بالنسبة للخيار الأول نجد أن الانقلاب مستمر في سياسة البطش من خلال العديد من المذابح التي ارتكبت، والمطاردات والاعتقالات وسن القوانين التعسفية كقانون التظاهر، ومد أجل الحبس الاحتياطي تسانده في ذلك مؤسسات الدولة والتحالف القوي من جانب الجيش والشرطة والأجهزة الأمنية، والإعلام والقضاء ورجال الأعمال وأصحاب المصالح، وهؤلاء جميعاً يدركون أنهم يخوضون معركة مصيرية فهي بالنسبة لهم معركة حياة أو موت، ولهذا نجد الشراسة في معركتهم ضد مناهضي الانقلاب، التي تعدت الكثير من المسلّمات والتقاليد التي كان يصعب تصور تجاوزها مثل الاعتداء على المساجد والنساء.
ويعتقد الانقلاب أن الوقت يلعب لصالحه حيث يؤدي لترسيخ أقدامه، ويكسبه الشرعية الدولية التي يسعى إليها، كما أن عنصر الوقت قد يؤدي إلى حالة من الإحباط لدى بعض مناهضي الانقلاب، وقد تفتّ في عضدهم كما قد تعمل على خلخلة التحالف المناهض للانقلاب، وهو ما قد يؤثر بصورة أكبر من الناحية المعنوية على التحالف، كما يعول النظام على إمكانية إعادة ثقافة الخوف التي عاشها المصريون طويلاً مرة أخرى، واستغلال الظروف الدولية المواتية من خلال التحالف الدولي ضد الإرهاب، وإدراكه أن العديد من القوى لن تسمح بسقوطه، وستتدخل لمساعدته خاصة دول الخليج التي تدرك خطورة سقوط النظام عليها، ولذلك ستجد نفسها مضطرة لتقديم يد العون له خاصة بعد أن استثمرت الكثير من الأموال في هذا الانقلاب.
أما الخيار الثاني فما زال تحالف دعم الشرعية رغم شراسة الانقلاب ضد أنصاره والرافضين للانقلاب بصفة عامة، يواصل الضغط من خلال المظاهرات التي لم تتوقف منذ وقوع الانقلاب، ومن الواضح أن المعركة أصبحت صفرية بين الجانبين رغم كل ما يشاع عن مبادرات للمصالحة، ولاشك أن استمرار المظاهرات طوال تلك المدة عمل يحسب له، كما أنها تمثل صداعاً للانقلاب، وتعكس حالة من عدم الاستقرار لاشك أن لها أثرها على بعض القطاعات، خاصة السياحة والاستثمار، كما تنال من شرعية النظام الانقلابي، فالشرعية الدولية ليست بديلاً عن الشرعية الشعبية، ولقد اعترفت دول العالم بأعتى النظم الديكتاتورية بصفته أمراً واقعاً، وهي مستعدة في كل الأحوال للاعتراف بأي نظام يفرض سلطته ويحقق مصالحها، أما المساعدات الخليجية فهي قد تمد النظام بأسباب الحياة والبقاء، ولكن لن تمنحه القوة المطلوبة لتحقيق نمو اقتصادي، فلن يقوم اقتصاد دولة كبيرة كمصر على المعونات والقروض.
كما أن الوقت يلعب ضد الانقلاب من جوانب أخرى، فاستمرار المظاهرات يفتّ أيضاً في عضد الانقلاب، كما كشف عدم وجود رؤية أو برنامج لدى الانقلاب، وقلص من شعبيته، بعد أن تبخرت الأحلام التي انتظرها الناس على أرض الواقع، فالمشكلات لم تُحلّ، بل تزايدت، والمقارنة مع فترة مرسي في معظم الملفات ليست في صالح الانقلاب.
كما أنه لا يبدوا أمام التحالف طريق آخر، فالبديل المتاح هو المصالحة التي ستكون ضربة قوية للجماعة تعمل على تفتيتها من الداخل، وانفضاض كثير من المتعاطفين معها والمؤيدين لها من حولها، لأنه في النهاية فإن أقصى شيء ممكن أن تحصل عليه من هذا النظام الآن - إن رغب في المصالحة – هو الإفراج عن المعتقلين، وتصفية بعض القضايا، ونوع من الحرية المقيدة شبيهاً بما كان عليه الوضع أيام مبارك، يتيح لها هامشاً محدداً من الحركة ودائرة لا تتعداها، وهو الأمر الذي كان يمكن للجماعة أن تحصل على وضع أقل سوءاً منه سابقاً؛ لأن المطلوب في كل الأحوال هو العمل تحت مظلة 30 يونيو والاعتراف به، ولهذا فربما كان استمرار الجماعة على موقفها - حتى لو تمكن الانقلاب من إخماد التحركات المناهضة للانقلاب، وفرض سيطرته الفعلية على الوضع - الخيار الأفضل لها على المدى المتوسط والبعيد، بالرغم مما قد تتعرض له بعد استفراد النظام بها وتفرغه لها، لأنها تكون في هذه الحالة قد قامت بدورها في مناهضة الانقلاب، وبذلت كل جهدها حتى استنزفت كل قوتها، ولم تتخلَّ عن رفضها المبدئي للانقلاب وآثاره الكارثية على مستقبل مصر، كما أنها بهذا الموقف ستعري القوى التي تتخذ من الإخوان شماعة لتبرير سياسات الانقلاب الاستبدادية الغاشمة.
الخيار الثالث هو عقد مصالحة جادة وحقيقية بين الإخوان والنظام، وقد يبدو هذا الطرح مستحيلاً في ظل تمسك كل طرف بموقفه، بصرف النظر عمن في جانبه الحق وفي ظل الحديث عن صفرية الصراع، ولكن علم السياسة من حيث المبدأ لا يعرف هذا الطرح، وأحداث التاريخ شاهد على ذلك، وقد سالت أنهار الدماء، وقتل الآلاف والملايين، بل وعشرات الملايين، كما حدث في الحرب العالمية الثانية على سبيل المثال بين العديد من الدول، ثم حدثت المصالحات، بل والتحالفات بين هذه الدول بعضها مع بعض، رغم الدماء التي سالت، وهذا بين دول وليس بين فرقاء الوطن، كما اندلعت حروب أهلية في العديد من الدول ثم التقى الفرقاء في النهاية.
ورغم صعوبة هذا الخيار ليس فقط بسبب الدماء التي سالت، ولكن أيضاً بسبب إلباس الانقلاب ثياب الثورة ومحاولة فرضها بالقوة، وربما لو قام الانقلاب سافراً وأعلن الجيش تدخله بصورة واضحة لإنقاذ البلاد مما رآه من خطر، وأنه سيتولى السلطة لمرحلة انتقالية لكان الأمر أقل حدة، ومع هذا فإن استمرار الوضع كما هو عليه لمدة طويلة وما سيترتب على ذلك من آثار مدمرة على الوطن، دون أن يحسم أحد الفريقين الأمر لصالحه، قد يدفع أحد الفريقين أو كليهما لتجرع السم، وتقديم كل منهما تنازلات يراها من وجهة نظره مؤلمة، وربما كانت كلمة الخميني الذي أعلن تجرعه السم بموافقته على قبول وقف النار مع العراق بعد مرحلة طويلة من العناد والحرب، التي امتدت ثماني سنوات مع العراق معبرة في هذا الصدد، مع القياس في الفارق.
الخيار الرابع :التغيير من داخل النظام نفسه نتيجة استمرار حالة عدم استقرار الوضع وتصاعد أعمال العنف، أو الوصول إلى حالة من الفوضى تهدد مصالح القوي الدولية، وعلى رأسها الولايات المتحدة التي يهمها إضعاف مصر، ولكنها في الوقت ذاته حريصة على ألا تصل البلاد إلى مرحلة من الفوضى تهدد مصالحها، خاصة فيما يتعلق بالكيان الصهيوني، ولكن أي تحرك في هذا الصدد وإحداث تغيير داخلي في النهاية، يستهدف الحفاظ على جوهر النظام القائم، ومصالح المؤسسة العسكرية، عن طريق إزاحة عقبة السيسي الذي يراه معارضو الانقلاب جزءاً من المشكلة، ولن يكون جزءاً من الحل، واستبداله بوجه آخر ليس متورطاً مباشراً في الأحداث التي شهدها الانقلاب، فتغيير من هذا السبيل لن يحقق أهداف الثورة وتطلعاتها ، ويخطئ من ينتظر منقذاً سيأتي من هذه المؤسسة ليعيد الشرعية أو حتى سوار ذهب جديد يبدأ مساراً ديمقراطياً، فهذا أقرب إلى أحلام اليقظة مع أنه افتراض قائم نظرياً.