بينما كانت تركيا تطالب بمناطق آمنة (عازلة) داخل الأراضي السورية المتاخمة لحدودها، خرج المبعوث الدولي إلى سورية ستيفان
دي ميستورا بـ"مبادرة" طرحها على مجلس الأمن في تشرين الأول/ أكتوبر الماضي؛ لإنشاء "مناطق حرة" تكون "خالية من الصراع" في شمال سورية، على أن تكون مدينة
حلب نقطة البداية.
وإذا كان هذا التداخل بين الفكرتين قد جاء نتيجة طرحهما بشكل متزامن، ما أعطى انطباعا أوليا بأن المبعوث الدولي الذي تولى مهامه في تموز/ يوليو الماضي خلفا للأخضر الإبراهيمي، يؤكد المطلب التركي، فإن التوضيحات التي قدمها دي ميستورا لاحقا أشارت إلى أن المقصود هو "هدنة" يتوقف القتال بموجبها في حلب كمرحلة أولى، بهدف "التركيز على محاربة الإرهاب" في إشارة إلى تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش) وجبهة النصرة بشكل خاص.
وللترويج لفكرته، زار دي ميستورا دمشق والتقى مسؤولين بالنظام السوري، بينهم الرئيس السوري بشار الأسد. ونقل دي مستورا ووسائل إعلام النظام عن الأسد قوله إن المبادرة "جديرة بالدراسة".
وتحدث دي ميستورا في مؤتمر صحفي في دمشق عن بعض ملامح مقترحه. وقال: "الحاجة للتركيز على التهديد الحقيقي للإرهاب كما حدده قرار مجلس الأمن الدولي التابع للأمم المتحدة. ثانيا لخفض العنف (.). ثالثا من خلال خفض العنف نحاول الوصول إلى أكبر عدد ممكن من الناس الذين يعانون من هذا الصراع المستمر في داخل سورية وفي خارجها، آملين أن نخفف معاناتهم ونجعلها لبنة في اتجاه بناء لحل سياسي". ويتضمن جزء من الخطة البدء بوقف إطلاق النار في مدينة حلب في شمال البلاد.
ويربط دي مستورا ما يطرحه بـ"قرارات مجلس الأمن (التي) تتطلب في الحقيقة وقف أنشطة بعينها ذات صلة بالصراع. وحلب يمكن ان تكون مثالا جيدا لرؤية كيفية تطبيق ذلك" حسب قوله.
وسبقت تحركات دي ميستورا الذي غادر دمشق إلى القاهرة حيث التقى الأربعاء وزير الخارجية المصري سامح شكري، زيارة لوفد من المعارضة السورية إلى موسكو، بمشاركة الشيخ أحمد معاذ الخطيب، وسفير الائتلاف الوطني السوري في الدوحة نزار الحراكي، ووزير الدفاع في الحكومة المؤقتة اللواء نور خلوف، ورئيس هيئة الخارج في الحكومة المؤقتة حسام الحافظ، وعضو المجلس العسكري اللواء محمد الحاج علي.
والشهر الماضي قام وفد من الائتلاف الوطني السوري بزيارة إلى القاهرة للقاء وزير الخارجية المصري والأمين العام للجامعة العربية، حيث جرى حينها الحديث عن "مبادرة" مصرية، وهو ما نفاه رئيس الائتلاف هادي البحرة الذي كرر الحديث عن مبادئ "جنيف2".
وبينما يتحدث دي ميستورا عن "تجميد" القتال في حلب كخطوة أولى بهدف تسهيل وصول المساعدات الإنسانية، ولتكون تمهيدا لبدء
مفاوضات سياسية، إلا أن النظام السوري يحاول الترويج بأن ما يطرحه المبعوث الدولي يندرج في إطار ما يفعله النظام ضمن سياسته التي يسميها "المصالحة الوطنية"، وهي في حقيقتها تعريض مناطق خارجة عن سيطرته للحصار الطويل ثم التوصل معها لاتفاقات يُسمح بموجبها لقوات النظام السوري بالدخول مقابل خروج المقاتلين منها. وهذا ما حصل في أحياء حمص القديمة وبلدة المعضيمة وحي القدم الدمشقي، ومناطق أخرى خصوصا في ريف دمشق.
وفي محاولة لإقناع دي ميستورا بأن النظام يتجاوب مع مبادرته، سمحت قوات النظام السوري بدخول قافلة صغيرة من الشاحنات تابعة للأمم المتحدة لنقل مساعدات إلى حي الوعر المحاصر في حمص، بالتزامن مع زيارة للمبعوث الدولي للحي، كما سُمح بإدخال كمية قليلة من الإمدادات الغذائية لحي القدم جنوب دمشق بعد أشهر من الممانعة رغم عقد اتفاق "هدنة" مع الثوار في الحي.
وقال دي ميستورا في مقابلة مع هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) إن داعش "يزعزع استقرار الجميع". وأجاب دي ميستورا عن السبب الذي سيدفع كلا من النظام وفصائل المعارضة على القبول باتفاقات محلية لوقف اطلاق النار بالقول "هناك عامل واحد أساسي. ما هو؟ إنه داعش. الدولة الإسلامية في العراق والشام. الإرهاب". وأضاف دي ميستورا: "ثانيا .. ما من منتصر. أتعتقدون أن طرفا قد يفوز (بهذه الحرب)؟ الحقيقة هي لا أحد. ولهذا السبب نطرح فكرة البدء بنموذج واحد أساسي على الأقل هي حلب". لكن المبعوث الدولي حذر من أن "القول بأننا نملك خطة للسلام هو (تصريح) طموح ومضلل. لكن لدي ولدينا خطة للعمل. وتبدأ خطة العمل من الميدان: أوقفوا القتال وقلصوا العنف".
لكن اللافت أن دي ميستورا، وبمقابل اجتماعاته مع مسؤولي النظام السوري لعرض مبادرته، حيث قال إن "لقاءاتي هنا مع الحكومة والرئيس الأسد منحتني شعورا بأنهم يدرسون بجدية كبيرة (...) اقتراح الأمم المتحدة"، حيث وصف "الرد الأولي للحكومة السورية" بأنه "يعبر عن اهتمام.. اهتمام بناء".. بمقابل ذلك لم يلتق المبعوث الدولي أيا من أطراف المعارضة السورية، السياسي منها والعسكري، لعرض مبادرته. وقال دي ميستورا: "إنهم (النظام) ينتظرون اتصالنا بالأطراف المعنية الأخرى والمنظمات الأخرى والناس والأشخاص الذين سنتحدث إليهم من أجل ضمان إمكانية المضي بهذا الاقتراح إلى الأمام".
وفي سياق تعليقه على مبادرة دي ميستورا، قال زهير سالم، الكاتب والقيادي السابق في جماعة الإخوان المسلمين لـ"عربي21"، إنه "بالأمس كان السيد هادي البحرة رئيس ما يعرف بالائتلاف الوطني يعترف أمام الإعلام أن السيد دي ميستورا لم يعرض مبادرته على المعارضة التي يقال إن الائتلاف يمثلها. وفي الوقت نفسه لم يعرض السيد دي ميستورا مبادرته على أي من قوى المعارضة".
وأضاف سالم: "ومع أن العديد من قوى المعارضة تطوعت بتقديم موقف من المبادرة وتداولته وسائل إعلام نظرا لغياب أو تغييب قوى المعارضة الحقيقية، تبقى دلالة تصرف دي ميستورا خطيرة على صعيد الثورة السورية والقضية السورية".
وفي تصريح يثير الشكوك حول الطريقة التي يتعامل معها النظام السوري المبادرة رغم الترحيب بها، وهو ما حصل في مؤتمر "جنيف2"، نشرت صحيفة "الوطن" الموالية للنظام السوري تصريحا لمصدر رسمي (في النظام) بأن مبادرة دي ميستورا تتحدث عن تجميد القتال في حلب المدينة فقط ولا تشمل الحديث عن ريفها، وقال إن جيش النظام "يتابع عملياته في محاربة التنظيمات الإرهابية المسلحة هناك، ويحقق يومياً الانتصار تلو الآخر وهو ماض في عملياته".
ويستذكر السوريون دائما تصريحا سابقا لوزير الخارجية السوري وليد المعلم حول "الإغراق بالتفاصيل"، حيث يعلن قبوله بمبادرات معينة، لكن الأمور لاحقا تتوقف على مناقشة تفاصيل صغيرة في محاولة لكسب الوقت.
وتوقع المصدر الذي نقلت عنه الصحيفة أن المبادرة "سينتج عنها في حال اعتمادها، وضعاً مشابهاً لما حصل في مدينة حمص القديمة مؤخراً، بهدف إعادة الأمن للمدينة، وذلك انطلاقاً من أهمية مدينة حلب، وحرص الدولة على سلامة المدنيين فيها كما هو حال كل بقعة من الأرض السورية" حسب قوله.
وقال سالم لـ"عربي21": "دي ميستورا الذي بدأ نشاطه بلقاء الأسد ووضع أوراق الحل في سورية في يده لم يفعل في مبادرته أكثر من إدخال تطوير نظرية الأسد عما يسميه: الهدن أو المصالحات التي تتمحور في رأيه حول إعادة السوريين إلى بيت الطاعة حسب نظرية بشار الأسد".
وتابع زهير سالم منتقدا المبعوث الدولي: "دي ميستورا لا يرى في المعارضة السورية شريكا ولا حتى طرفا، وهو يعتقد أنه إن نجح في إقناع بشار الأسد بحل ما (أي حل) فسيكون قد حقق النجاح لدبلوماسيته، وأن المعارضة السورية التي تم غربلتها ونخلها على المقاس الأممي ستكون مضطرة للتعامل مع أي اتفاق بطريقة إيجابية".
لكن سالم استدرك قائلا: "مع أن الموقف العدمي الرافض ليس بالفعل السياسي الرشيد، يبقى إعطاء رأي قبل الاستشارة نوع من الخفة لا تليق بالمعارضين الجادين".
وكان رئيس الائتلاف الوطني السوري هادي البحرة قد اعتبر أن اتفاقا محتملا لوقف إطلاق نار محلي لن يفيد سوى النظام، إلا إذا ترافق مع حل سياسي شامل.
وقال البحرة في مقابلة مع صحيفة الغارديان إن "التحالف يقاتل ظاهر المشكلة الذي هو الدولة الإسلامية من دون مهاجمة أصل المشكلة الذي هو نظام" بشار الاسد. وأضاف: "التحالف يضرب أهدافا لـ(تنظيم) الدولة الأسلامية، لكنه يغض النظر عندما يستخدم طيران الأسد البراميل المتفجرة والصواريخ ضد أهداف مدنية في حلب أو في أماكن أخرى".
وأعلن قياديون في فصائل مقاتلة في ريف إدلب الجنوبي وريف حماه الشمالي رفض خطة "تجميد" القتال، واعتبروا أنها "تصب في صالح النظام، لجمع شتات قواته وتركيزها في أماكن معينة تحقق فيها فصائل المعارضة تقدماً".
واعتبر قيادي في حركة أحرار الشام، في تصريح لوكالة الأناضول، خطة دي ميستورا "لعبة خبيثة من النظام الدولي، ستتيح للنظام سحب قواته إلى درعا، التي حقق فيها الثوار تقدماً كبيراً".
وقال معتز الحاج، قائد كتائب فاروق الإسلام العاملة في ريف إدلب الجنوبي، إنهم ضد تجميد الصراع في أي نقطة، لافتاً إلى أنه في حال وقف القتال في الشمال فإن قوات الأسد ستقوم بالانتقال إلى الوسط والجنوب، وأكد أن "الموافقة على وقف القتال من قبل أي مقاتل أو فصيل أو قائد في المعارضة هي خيانة لدم الشهداء" حسب تعبيره.
كما أشار أبو خالد، القيادي في أحرار الشام، إلى "أن الحركة ترفض وقف القتال في حلب أو غير حلب"، فيما شدّد العقيد أبو بسام، القائد في كتائب الفاروق، على أن "فصائل المعارضة المسلحة تدرك أن وقف الصراع في حلب، يعني أن النظام سيسحب قواته فيها إلى حمص ودرعا، ليقاتل هناك بزخم أكبر".
وكان العميد زاهر الساكت، قائد المجلس العسكري في حلب الذي يمثل الجيش السوري الحر، قد قال في وقت سابق: "لقد رفضنا التفاوض مع النظام ورفضنا الاستماع إلى مبعوث الأمم المتحدة لتجميد القتال في حلب قبل تحقيق الشروط الأربعة التالية: تسليم مجرمي الحرب الذين استخدموا الكيميائي على السكان المدنيين، وخروج المليشيات الإرهابية الطائفية من سورية، وإيقاف براميل الموت والطائرات، والإفراج عن المعتقلين من سجون الإرهابي بشار الأسد وخاصة النساء"، حسب قول الساكت على صفحته على الفيسبوك.
وأبدت الولايات المتحدة شكوكا حيال التزام النظام السوري بالمبادرة. وقالت المتحدثة باسم وزارة الخارجية جنيفر بساكي: "ندعم بالتأكيد وقف إطلاق نار من أجل تخفيف المعاناة عن المدنيين السوريين ووفقا للمبادئ الإنسانية"، لكن "للأسف فقد أعلنت هدنة محلية مرات عديدة حتى الآن، ولكنها كانت أشبه باتفاقات استسلام أكثر منها وقف إطلاق نار حقيقي ودائم"، حسب تعبير بسكاكي التي تابعت بالقول: "لم نصل بعد حاليا إلى نقطة عودة الطرفين إلى طاولة المفاوضات".