كتاب عربي 21

آلان جريش.. إيه اللي وداه هناك؟

1300x600
في سبتمبر 2011 اتصل بي الزميل محمود أبو بكر من بي بي سي ليخبرني أن الأستاذ آلان جريش رئيس تحرير لوموند ديبلوماتيك في القاهرة، وثمة فرصة لاستضافته في برنامج صفحة الرأي الذي كان يقدمه شاعر الثورة عبد الرحمن يوسف،  وكنت رئيس تحريره، وافقت على الفور، ونظرا لظروف خاصة بسفر "جريش" تم تسجيل الحلقة في اليوم نفسه.

كنت أعرف أن "جريش" مستشرق فرنسي متميز، كما أنه أحد أهم المتخصصين في شئون الشرق الأوسط، لكنني لم أكن أعلم أن لغته العربية بهذه الرشاقة، لفت نظري أن عاميته المصرية أيضا تتجاوز مجرد الاهتمام بالشأن المصري، إلى علاقة من نوع خاص، انتماء، وانحياز واضح لا يخفيه، وحنين لأصول مصرية، حيث أنه من مواليد القاهرة، في الأربعينات.

تبادلنا أطراف الحديث، قبل التصوير، حول رؤيته عما يحدث في مصر، كلماته عن الثورة المصرية، وآراؤه حولها، وتوقعاته بمآلاتها، تصدر عن رجل عاش الحدث بكل كيانه، صار جزءا منه، واختلط عنده التحليلي بالشعوري، والواقعي بالمأمول، كان ثورة تمشي على الأرض، حماس، وشغف، ونشوة، كان "جريش" متفائلا بوجه عام.

تحدثنا عن المؤسسة العسكرية، كان يرى أن ثمة ملفات تتعلق بالمعونة الأمريكية، وبعض بنود الميزانية سوف تظل في يد الجنرالات، وأن الجيش لن ينسحب من معادلة السلطة دفعة واحدة، التغيير قادم لا محالة، لكنه يحتاج لبعض الوقت، والمدهش أنه كان يرى، وربما كان يأمل، أن الجيش، قياداته على وجه التحديد، ليس لديه رغبة في الحكم، وسيعود لثكناته مع الاحتفاظ بالملفات التي تضمن المصالح والامتيازات!.

تكلمنا في كل شيء قبل التسجيل وأثناءه، تكلمنا عن الشباب وضرورة تمكينه، عن العلاقات المدنية العسكرية، عن مصر والعالم الخارجي، تحديدا الولايات المتحدة، وأوروبا، لكنني لا أنسى حديث "جريش" عن الصراع العلماني الإسلامي، والقضية الفلسطينية!!.

يقول جريش: الاستقطاب بين الإسلاميين والعلمانيين في مصر جزء من صراع وهمي، المشكلة الحقيقية التي لا يلتفت إليها أي من الطرفين هي التنمية الاقتصادية، الجميع يتحدث عن الاقتصاد بشكل عام، الجميع يريد اقتصادا قويا، لكن لا أحد يخبرنا كيف؟، لا أحد يملك خطط، الحقيقة أن الخطة الوحيدة كانت عند نظام مبارك، على علاتها وفسادها.

سألناه عن التوقعات بصعود الإسلاميين، قال إنه لا يتفق جملة وتفصيلا مع الاتجاه الإسلامي، لكنهم جزء من الحياة، كما أنهم ليسوا قوة واحدة، فهناك الإخوان، والسلفيون، وعبد المنعم أبو الفتوح، وحزب الوسط، وكل هؤلاء بينهم اختلافات كثيرة، برأيه، كذلك التيار الليبرالي في مصر ليس قوة واحدة، ويشهد بدوره تنوعات وانقسامات.

يقول: اذا اتفقنا على قواعد اللعبة الديموقراطية، فسوف نشهد تحالفات إسلامية/ علمانية ضد قوى إسلامية أخرى، ولن يكون هناك ما يبعث على الخوف، فالديموقراطية كفيلة بتبديد كثير من الأوهام حول الإسلام السياسي.

يستخدم جريش كلمة "احنا"، أو نحن، بشكل طبيعي، وعفوي حين يتحدث عن المصريين والعرب، في المرة الوحيدة التي استخدمها للإشارة إلى الأوروبيين، ابتسم في خجل، قائلا: "إحنا الأوربيين يعني".

يخبرنا جريش أن الخوف من الإسلام السياسي في أوروبا مرده إلى حملة بدأت منذ عشر سنوات على يد اليمين الفرنسي، سرعان ما تبعه اليسار بدوره، للتخويف من الإسلام السياسي، وإظهاره بوصفه الخطر الحقيقي على الحضارة الأوروبية.

وحين يلمس "جريش" منا مشاركة يمين الفكر الفرنسي ويساره بعض مخاوفهم، يبتسم في ود قائلا: إن الخوف من الإسلاميين معناه العودة إلى سياسات مبارك، "الذي كان دائما ما يخبرنا في أوروبا أنه لو فتح الباب للديموقراطية لجاء الإسلاميون إلى الحكم، ومن هنا كانت الأنظمة الأوروبية تؤيد مبارك وتدعم ديكتاتوريته خوفا من الإسلاميين". 

"الإسلاميون يتغيرون"، قالها جريش، وهو يستعرض تاريخ التنظيمات الإسلامية في مصر، مشيرا إلى الفصائل المتشددة ، التي انتقلت من المقاومة المسلحة إلى المراجعات، والفكر السياسي الأكثر رشدا، ويبشرنا بأن المجتمع المفتوح، والديموقراطية، التي أتت بها ثورة مصر، سوف تحمل الكثير من الاندماج، والترقي، لأفكار الجميع، وأن كثيرا من المشكلات التي خلفتها عصور الاستبداد في طريقها إلى الحل مع الحرية !!.

جريش تحدث عن القضية الفلسطينية، وقال أنه عاش 10 سنوات من المفاوضات مع إسرائيل بلا معنى، وأنه لا يبدو أن ثمة فرصة آنية للحل، ذلك لأن إسرائيل -بحسبه- هي الطرف الوحيد الذي لا يريد السلام ولا يريد الحل!!. 

يتحدث جريش عن أن نظام مبارك كان يوفر الغطاء السياسي لمماطلة الإسرائليين طوال عشر سنوات، ويؤكد أن هذا لن يتكرر بعد الثورة، (ابقى اتوضى قبل ما تحلل الوضع يا مولانا).

ويقول جريش بغيرة صاحب القضية، لو أردنا من المجتمع الدولي، أوربا يعني، أن يتدخل لصالح القضية الفلسطينية فعلينا أن نجبره على دفع ثمن انحيازه لإسرائيل (تذكير: آلان جريش مواطن فرنسي)، أما مصر، فعليها الآن أن تقيم علاقات اقتصادية مع القوى الجديدة الصاعدة مثل الصين، والهند.

هذه هي مشاعر جريش تجاه بلادنا، وثورتنا، ومؤسساتنا، وقضايانا المحلية والإقليمية.

بالأمس، الثلاثاء 11/11/2014، ألقت الشرطة المصرية القبض على آلان جريش، يجلس مع صحافية مصرية وطالبة جامعية في كافيتريا بوسط البلد، أمام السفارة البريطانية، يتحدثون بشكل طبيعي، عن أحوال البلد، مثلما يحدث عادة في أي مكان مشابه في العالم، بعد نصف ساعة، قامت زبونة كانت تتنصت على حديثهم، وصرخت في وجوههم، "أنتوا عايزين تخربوا البلد"؟!

خرجت السيدة المحترمة وجاءت بالشرطة، وبعد نصف ساعة من الأسئلة، والتحقيق، والملل، سلموه جواز سفره، وأذنوا له بالانصراف، واحتجزوا الفتاتين، رفض أن يمشي دونهما، فسحبوا منه الباسبور للمرة الثانية، اتصل "جريش" بالسفارة الفرنسية، التي اتصلت بدورها بنقابة الصحفيين، ثم صدرت أوامر "من فوق" بالإفراج عنهم جميعا .. "المجد للخواجات".

عاد جريش إلى الفندق مرهقا ونام لبعض الوقت قبل أن يستقبل مكالمة في السادسة مساء تخبره أن سيارة في انتظاره بالخارج لاصطحابه إلى وزارة الداخلية !! .. لماذا؟ لتقديم الاعتذار!!!

في هذا الوقت كان جريش على موعد مع صديقنا العزيز الباحث في الاجتماع السياسي إسماعيل الاسكندراني، الذي استقبل هاتفه رسالة من جريش تفيد بأنه في مأزق، وأنه يجري اقتياده الآن لوزراة الداخلية.

يكمل "الاسكندراني" على صفحته على فيس بوك: "أجريت اتصالات سريعة بالزملاء الصحفيين في عدة مؤسسات، وأكدت أن تقييد حريته واقتياده بدون إرادة حرة منه إلى الوزارة لا يمكن تسويغه بالرغبة في الاعتذار، وأن الذي يريد أن يعتذر يمكنه إجراء مكالمة، أو من اللياقة أن يذهب إلى من تم الخطأ في حقه، لا أن يقتاده إلى مكتبه".

خرج آلان بعد قليل وأتى إلى مكان موعدنا حاملاً درعا من وزارة الداخلية وبعض المطبوعات التي أهداها له المسؤول عن قسم حقوق الإنسان في الوزارة، الذي أراد توظيف الموقف في الترويج لازدهار حقوق الإنسان في وزارة المذابح.

وضع جريش الدرع والمطبوعات على الأرض وبدأنا نتجاذب أطراف الحديث، فحكى عن تفاصيل يومه، وأبدى انزعاجه الشديد من ظاهرة المواطنين الشرفاء، الذين يراهم أخطر من أي قمع بوليسي نظامي. 

جريش الذي كان يخبرني قبل عامين أن التغيير قد حدث، وأن نتائجه تحتاج لبعض الوقت، ويتحدث بحماس منقطع عن مصر المستقبل، وعن قواعد اللعبة الديموقراطية التي تتسع للجميع، صار يتحدث عن خطورة المواطنين الشرفاء، يدفع ثمن مواقفه المنحازه للعرب من استهجان الفرنسيين وانتقاداتهم، ومع ذلك يصر دائما على  زيارة مصر، شأن مجاذيب المحروسة، من العشاق والمريدين، عبر التاريخ.

الشرطة المصرية العظيمة ألقت القبض على "جريش" 3 مرات في يوم واحد، مرة للاشتباه، وأخرى لأنه "جدع" ورفض أن ينفد بجلده دون أن يطمئن على مصير الفتاتين، أما الثالثة فكانت ليعتذروا له.

وكم ذا بمصر من "الاعتذارات"!!!

لقد طرد العسكري الأول، كثيرا من عشاق المحروسة، ودفع بعضهم للهروب بما تبقى له من شقا العمر، تحت دعاوى التأميم، وخسرت مصر جزءا أصيلا من مذاقها، ولونها، وشخصيتها الحضارية، فيما يواصل العسكري الأخير رسالة الفاشية المقدسة في تدمير مشاعر أجيال بأكملها في الداخل والخارج تجاه بلادنا، تحت دعاوى الحرب على الإرهاب، والمؤامرة الكونية، والأمن القومي، ذلك الذي تأثر من دون شك بفنجان قهوة مع صحفي فرنسي ودردشة أصدقاء حول الظروف والأحوال.  

لقد خلق العسكري الأول، بآلته الإعلامية جيلا كاملا، يؤمن بأن العالم كله يخشانا، ويعمل لنا ألف حساب، وأننا أسقطنا 90 طائرة للعدو، وسنصلي العصر في المسجد الأقصى، وبعد الهزيمة، أخبرونا أننا لم نهزم لأننا لم نحارب، وأنها مجرد نكسة، فيما يواصل آخر العساكر الموتورين إقناعنا عبر آلة إعلامية أشد هوسا وكذبا وتضليلا بأن العالم كله يتربص بنا ويغار منا ويحاربنا، ويسلط علينا الإرهاب حتى لا نكمل مشروع قناة السويس، واختراع جهاز "صباع" الكفتة للقضاء على مرض الإيدز وتحطيم خطوطه المنيعة في ست ساعات.

سيقرأ القارئ الفرنسي في جرائد اليوم خبر القبض على رئيس تحرير لوموند السابق، المعروف بانحيازاته الشرقية، العروبية، والمصرية خاصة، لعل قارئا فاشيا، وضيعا، يبتسم الآن في تشف، وهو يستعرض تفاصيل يوم "جريش" المزعجة قائلا: "إيه اللي وداه هناك"؟.

 فالعهر ملة واحدة .. ومصر أم الدنيا.