مقالات مختارة

كيف هي الحال في الموصل؟

1300x600
كتب جمال خاشقجي: كيف يمكن أن يخرج "داعش" من الموصل، ثاني أكبر المدن العراقية إيذاء، نحو مليوني عراقي؟

ألقي بهذا السؤال على أفضل المحللين السياسيين، وسيحتارون في الإجابة عنه، لعل من حسن حظ الموصل أنها ليست تحت رحمة نظام طائفي كالذي كان يقوده رئيس الوزراء «المعزول» نوري المالكي، وإلا كان مصيرها وأهلها مصير حلب وحمص وحماة نفسه، على يدي حليفه الطائفي بشار الأسد، فيدمرها على رؤوس أهلها ببراميل متفجرة وقصف أعمى وصواريخ «سكود». إنها تحت رحمة التحالف الدولي الذي وضع خطة طويلة الأمد، ولا نعرف، وربما هو لا يعرف كل تفاصيلها، ولكن نعرف أهم أركانها مراعاة خاطر سُنّة العراق لعلهم يتحالفون معه لاحقاً للقضاء على «داعش».

لقد تعرضت بعض أطراف الموصل لقصف طائرات التحالف، التي استهدفت أهدافاً لتنظيم الدولة «الإسلامية»، آخرها كان الإثنين الماضي عند بوابة الشام غرب المدينة، سقط فيها ستة مدنيين و»داعشي» واحد. مؤلم سقوط المدنيين الأبرياء، ولكن لا يقارن ذلك بما يفعل بشار تحت نظر التحالف في حلب كل يوم، وهذه واحدة من التناقضات الكثيرة في الحرب على «داعش».

تنظيم «الدولة الإسلامية» يريدنا أن نصدق أن «رعاياه» في الموصل بخير، بل لعله مؤمن بأنهم يرفلون في سعادة ورضا أن حلّت عليهم بركات «الخلافة» وأمنها وعزتها، من خلال ما بثّوه من أشرطة تسجل احتفالات عيد الأضحى هناك، ولكن هل هم كذلك؟ المؤكد أن الموصليين آمنون طالما أنهم لا يعارضون «داعش» ومستعدون لمد الأيادي «حرفياً» لمبايعة «الخليفة» البغدادي عقب كل صلاة عيد وجمعة، فيقسمون له على الولاء والسمع والطاعة في المنشط والمكره، وعلى إثره فعليهم ألا ينازعوا الأمر أهله «الذين لم يختاروهم» ما لم يروا كفراً بواحاً عندهم فيه من الله سلطان، هذا هو نص القسم الشرعي الذي يستحقه إمام اختارته الأمة، ولكن فقه «داعش» غير ذلك، فالبغدادي هو المتغلب وقد وجبت طاعته.

اتصلت بأكثر من مصدر من داخل الموصل وحولها، فنقلوا إلي صورة قاتمة عن أحوال المدينة، تتنافى مع مضمون الأشرطة التي يبثها «داعش»، ولكنهم يجمعون أن السكان آمنون، يفضلون ما هم عليه مقارنة بما كانوا عليه تحت حكم المالكي، وما كانوا يتعرضون له من انتهاكات وإهانة لكرامتهم من جيش وميليشيات طائفية، ولكنهم يشعرون بأنهم يعيشون بلا مستقبل في مدينة محاصرة لا يغادرونها إلا بإذن وكفيل لضمان عودتهم إليها.

المعلومات من داخل الموصل شحيحة، ومن الواضح أن «داعش» يريد ذلك، فهو يعتقل الإعلاميين المستقلين، بل يعدمهم أحياناً بتهمة الخيانة والتخابر إذا عملوا من دون إذنه، ولم يسمح لأية قناة أجنبية بدخول الموصل أو أية مدينة تحت سيطرته، باستثناء قناة Vice الأميركية غير التقليدية، التي تبث فقط على شبكة الإنترنت، ويظل التساؤل، لماذا تلك القناة دون غيرها؟ في الوقت الذي تتراكم بالتأكيد طلبات دخول «أرض الخلافة» على مكتب رئيس «ديوان» الإعلام (لا أعرف ما الاسم الذي يطلقونه على هذه الوزارة المستحدثة)، ولكن يبدو أن ذلك كان الاستثناء وليس القاعدة، فمن الواضح أنه يريد فرض ستار حديدي على دولته، متبعاً في ذلك النهج السوفياتي القديم للسيطرة والتحكم بالشعوب.

الأمر الآخر المثير للاستغراب أن «داعش» لم يطلق أية إذاعة أو تلفزيون لمخاطبة «رعاياه»، على رغم أنه مثل غيره من حكومات المنطقة، يتعامل مع الإعلام بوصفه جيشه الثاني، الذي يحقق به الاستقرار، ويضمن استمراره بالسيطرة على عقول مواطنيه، ولكنه اكتفى بتوزيع تعاميمه وبلاغاته مشافهة أو كتابة من خلال المساجد عقب الصلوات، وأحياناً بمكبرات الصوت في الأسواق، على رغم أن في الموصل إذاعة «الرشيد»، وهي مجهزة ولا تزال سليمة بعدما سيطر على بناية قناة «سنا» التلفزيونية، واعتقل عدداً من العاملين فيها الإثنين الماضي، من دون إبداء أي أسباب، كما أكد لي الصحافي الموصلي زياد السنجري، الذي لا يزال يحتفظ بعلاقات فيها، والذي زودني مع غيره من المصادر من داخل الموصل بكثير من معلومات هذه المقالة.

الإنترنت متاح في الموصل (ويبقى هذا محل تساؤل ثالث)، ويمكن أن يراه «داعش» وسيلة إعلامية متاحة لأهالي الموصل وما تحت يده في العراق وسورية، ولكن تحليل أشرطته يشير إلى ثلاث مجموعات يخاطبها: الأولى أهالي الموصل أنفسهم بإرسال التعاميم التي تحدد نمط الحياة الجديد المفروض عليهم، إضافة إلى شرائط انتصاراته التي تحمل «بشارات النصر»، والتهديد بمصير أسود لمن يعارضه، بعرض صور إعدامات «الخارجين على صف الجماعة».

المجموعة الثانية، رجال «الدولة الإسلامية» ومقاتلوها لرفع روحهم المعنوية وتثبيتهم وإبراز محاسن «الخلافة» وبركاتها في ما يمكن وصفه بـ «بروباغندا» تقليدية تمارسها كل الحكومات الشمولية، أما المجموعة الأخيرة، فهم الأنصار المترددون حول العالم، وقد ازدادت نوعية هذه الأفلام التي باتت تخرج بجودة في النص والصورة تدعوهم إلى «الهجرة الواجبة، فالخلافة قامت، وشرع الله ساد، فنفذت الحدود وعادت العزة، فوجب عليكم القدوم لنصرة هذه الدولة والخلافة»، من الواضح أن «داعش» يريد شعباً يحافظ عليه، وأنصاراً جدداً يكونون جنداً له لمشاريعه القادمة.

لقد خرج «داعش» من عقلية الكهوف والسرية إلى مدن وحواضر، يمارس فيها الحكم، ويجبي الرسوم، ويوزع الزكاة، ويبيع النفط، ويتعامل ضمناً مع جيرانه الأعداء فيسمح للحكومة المركزية بتحويل رواتب الموظفين (باستثناء القضاة)، ويسمح لرعاياه بدفع فواتير الهاتف، فتحرص شركات الهاتف العراقية والكردية التي يملكها أبناء الزعماء الثلاثة، بارزاني وطالباني والحكيم، على استمرار توفير الخدمة خوفاً وطمعاً، وينشر دعوته، ويعسكر الشباب، بل حتى الأطفال. من الواضح أن لديه خطة طويلة الأمد، وكذلك التحالف، فمن يسبق من؟

لعله الزمن، فـ «داعش» يعيش مع أتباعه وأنصاره أجواء المخيم الإسلامي، حيث الإخاء والمحبة بين المؤمنين، والغلظة والشدة على من يراهم كفاراً ومنافقين، ولكن هل يستطيع أن يتحمل انفضاض أجواء المخيم وحماسته إلى واقع الدولة المسؤولة عن حاجات شعب تعداده 5 ملايين يمتد من الموصل حتى شرق حلب، وقد استعدى العالم فأغلق عليه الحدود، فلم يعد يجبي لعراقه وشامه قفيزاً ولا درهماً؟

(عن صحيفة الحياة اللندنية 1 تشرين الثاني/ نوفمبر 2014)