في ذكرى الأيام الأولى من انتفاضة المسجد الأقصى التي اندلعت قبل أربعة عشر عامًا، وفي الذكرى الرابعة والعشرين لمجزرة المسجد الأقصى؛ يكثف الصهاينة اقتحاماتهم للمسجد المقدس ويعززون مساعيهم لتقسيمه، بينما تقوم السلطة
الفلسطينية بقمع المسيرات التي نظمتها حركة
حماس في بعض مدن الضفة الغربية احتجاجًا على تلك الاعتداءات كما حصل في يوم الجمعة الماضي، وكانت السلطة من قبل قد قامت بالتضييق على الفعاليات التي نظمتها ذات الحركة تضامنًا مع الأسرى الإداريين الذين استمر إضرابهم المفتوح عن الطعام ثلاثة وستين يومًا في الفترة الواقعة ما بين شهري نيسان وحزيران من هذا العام.
وخلال هذا العام أيضًا قامت مجموعة من حركة حماس في مدينة الخليل بالضفة الغربية بأسر ثلاثة مستوطنين وقتلهم، وتبع ذلك عدوان صهيوني واسع على الضفة الغربية تمثل في مداهمة البيوت وتكثيف حملات الاعتقال والتي شملت الأسرى المحررين في صفقة الجندي "جلعاد شاليط"، وتعرضت هذه الحملة لمقاومة عزلاء باسلة في كل من الضفة والقدس وبعض مناطق فلسطين المحتلة عام 48 خاصة بعد خطف المستوطنين للطفل محمد أبو خضير من حي شعفاط بالقدس وحرقه حيًا، حتى تدحرجت الأحداث بعد ذلك وصولاً للحرب العدوانية الواسعة التي شنها الاحتلال على قطاع غزة والتي استمرت لما يقارب الشهرين.
وقبل شهر استشهد منفذو عملية أسر المستوطنين في الخليل، أما بعد شهرين من الآن فسوف ندخل في الذكرى السابعة والعشرين لاندلاع الانتفاضة الأولى وتأسيس حركة المقاومة الإسلامية "حماس".
ينفتح هذا السرد على الكثير مما يربط هذه الأحداث ببعضها، ويثري النقاش حول الوضع الفلسطيني القائم، بيد أننا سنتوقف عند الاقتراح المستمر من طرف بعض المثقفين باتخاذ تجربة الانتفاضة الأولى خيارًا نضاليًا بديلاً عن المقاومة المسلحة، وهو الاقتراح الذي يزدادون به إلحاحًا عادة في ذروة الفعل المسلح، كما حصل في حرب "العصف المأكول"!
وتتلخص حجة أصحاب هذا الاقتراح في ثلاثة عناصر أساسية: الأول؛ الحدّ من كلفة المواجهة مع الاحتلال، والثاني: إحراج الاحتلال أمام الرأي العام العالمي، والثالث: إشراك المجتمع المتجاوز للحالة الفصائلية في المواجهة.
ومع أن عناصر هذه المحاجّة تفتقر إلى القوّة التي تفرض التسليم بها، وتستدعي نقاشًا يكشف عما تنطوي عليه من ضعف وهشاشة، فإننا في هذه المقالة سنتوقف فقط عند الشروط الموضوعية التي أنتجت الانتفاضة الأولى، وهي ذات الشروط الممتنعة الآن، وبما يقوّض هذا التصور الرومانسي الذاهل عن السياقات الموضوعية، والذي يفترض بأن نموذج الانتفاضة الأولى هو خيار متاح لمن أراده إلا أنه متروك من طرف الفصائل، وهو تصور لا يخلو من تناقض داخلي حينما يفترض المشكلة في الفصائل والحل في المجتمع، ثم لا يتساءل: ولماذا لا يقوم المجتمع بالحل؟!
علاقة الأحداث التي عرضها مفتتح هذه المقالة بهذه القضية؛ يمكن التقاطها أساسًا من موقف السلطة تجاه الفعاليات الاحتجاجية العزلاء، سواء تلك التي تنظمها حركة حماس أو تلك التي تتصدرها قوى سياسية ومجتمعية أخرى، خاصة وأن الحديث عن موضوعات تحظى بالإجماع الوطني، ويفترض فيها أن تعصم المحتجين لأجلها من قمع السلطة الوطنية، كقضايا الأسرى والقدس والأقصى، وبالرغم من ذلك فإن السلطة لم تتوقف عند هذه الاعتبارات الإجماعية وهي تمنع هذا النوع من الاحتجاج الأعزل حتى لو اقتصر على مجرد التجمهر داخل مراكز المدن بعيدًا عن نقاط الاحتكاك مع الاحتلال.
من الواضح أن السلطة تسعى جاهدة لإغلاق المنافذ التي يمكن أن يتوسع منها الاحتجاج بما يحول دون القدرة على تطويقه تاليًا، وهي سياسة وإن كانت أكثر صرامة مع حركة حماس، فإن أهدافها تتجاوز الخصومة مع حماس والرغبة غير المخفية في اجتثاث هذه الحركة إلى منع أي حالة احتجاج من شأنها أن تتطور إلى انتفاضة واسعة.
إن وجود
السلطة الفلسطينية في مواجهة المحتجين يعيدنا إلى أصل موضوعة الانتفاضة الأولى، والتي مثلت في بداياتها حالة عصيان مدني ضد الاحتلال المتمركز داخل مناطق الضفة الغربية، إلى الدرجة التي دفعت الاحتلال إلى تحطيم أبواب المحلات التجارية المغلقة التزامًا منها بالإضراب التجاري الذي كانت تدعو إليه الفصائل، وهو ما يعني أن الاحتلال تعامل مع الانتفاضة كحالة عصيان مدني، خاصة وأن وجوده داخل مراكز المدن كان دائمًا ومباشرًا ومكثفًا من خلال مقراته وسجونه وجنوده.
شملت فعاليات الانتفاضة الأولى بشكل أساسي؛ رمي الحجارة على الجنود والمستوطنين الصهاينة، والإضراب التجاري، والحداد على الشهداء، ورفع العلم الفلسطيني على الأعمدة ومآذن المساجد، وكتابة الشعارات الوطنية على الجدران، وتوزيع المنشورات، إضافة إلى تخريب مصالح الاحتلال التجارية والزراعية، وهذه الفعاليات كلها واجهها الاحتلال بصرامة، وإن تراجع أمام فعالية الإضراب التجاري، أما بقية الفعاليات فكان ثمنها السجن أو القتل بما في ذلك رفع العلم الفلسطيني.
مع دخول السلطة الفلسطينية لم تعد هذه الفعاليات ذات أثر على الاحتلال، فالعلم الفلسطيني لم يعد محظورًا، كما تحولت فصائل منظمة التحرير لدى الاحتلال من الناحية الفعلية أو القانونية من محظورة إلى مشروعة بما في ذلك حركة
فتح التي شكّلت العمود الفقري للسلطة الفلسطينية، وحتى حمل السلاح صار مسموحًا ما كان في إطار السلطة، وأما الكتابة على الجدران فقد فقدت قيمتها الإعلامية مع تطور المجتمع الفلسطيني، كما أنها لم تعد متاحة بوجود سلطة فلسطينية تتبع لها في المدن والقرى مجالس حكم محلي، وقد انتفى معنى الإضراب التجاري مع وجود السلطة الفلسطينية، حتى لم يبق من إرث الانتفاضة الأولى شيء سوى رمي الحجارة على مراكز الاحتلال، الأمر الذي يحتاج بدوره زحفًا من مراكز المدن إلى نقاط الاحتكاك مع الاحتلال.
في بداية الانتفاضة الثانية، كانت الجماهير تزحف من مراكز المدن، إلى نقاط الاحتكاك مع الاحتلال، مستفيدة من السماح الذي وفّرته السلطة الفلسطينية بحسب سياسة عرفات عقب فشل مفاوضات كامب ديفد، حيث تعامل الاحتلال بوحشية بالغة مع حركة الجماهير هذه والتي لم تكن مسلحة في بدايتها، مستخدمًا ضدها المدافع الرشاشة وأحيانًا الطائرات العامودية، وفي وقت لاحق الطائرات الحربية لقصف مقرات السلطة بعدما توسعت الانتفاضة وخرجت عن سيطرة السلطة، إذ تذرع الاحتلال في تسويغ بطشه بوجود سلطة فلسطينية تنطلق من أرضها حركة الجماهير المعادية وتزحف إليه، بينما كانت حركة الجماهير في الانتفاضة الأولى تنطلق من بين قوات الاحتلال التي تحكم الشعب الفلسطيني بصورة مباشرة.
لم تكن الانتفاضة الأولى خيارًا استحسنته الجماهير الفلسطينية من بين خيارات أخرى متاحة، وإنما كان الممكن الوحيد المتاح لدى الجماهير العزلاء المفتقرة إلى السلاح، ولذلك عملت الجماهير على تطوير أدواتها من الاحتجاج الأعزل إلى النضال المسلح، فأول محاولة لتفجير سيارة مفخخة نفذتها حماس كانت في العام 1992، أما أول عملية استشهادية لنفس الحركة فكانت في 16/4/1993، أي قبل اتفاق أوسلو وبالضرورة قبل دخول السلطة الفلسطينية غزة وأريحا، إذ أنه لا يمكن أبدًا ضبط إرادة الجماهير التوّاقة إلى تطوير قدراتها النضالية في واقع يفتقد للمركزية، وفي ظروف أمنية بالغة التعقيد، فلا يمكن للفصائل الحيلولة دون سعي الجماهير ولا حتى عناصرها عن امتلاك أدوات النكاية في الاحتلال، فتطور الانتفاضة الأولى نحو العمل المسلح كان نتاج صيرورة طبيعية، بينما كان تحول الثانية نحو العمل المسلح ناجمًا عن مطالب الجماهير التي صدمتها وحشية الاحتلال في القتل الواسع للمحتجين العزل.
وهذه الانتفاضة، أي الأولى، لم تكن كلفتها منخفضة كما يجري تصويرها، وإنما كانت عالية جدًا بالقياس إلى طبيعة فعالياتها وقدرات الشعب في ذلك الوقت وموقع الاحتلال قبل وجود سلطة فلسطينية، فالقتل كان يحصل لمجرد رفع العلم أو كتابة شعار أو رمي الحجارة، فضلاً عن آلاف السجناء ونسف أكثر من 1228 منزلاً، وإغلاق المدارس والمساجد والجامعات، وغير ذلك من مظاهر الإجرام التي اقترفها الاحتلال بحق الشعب الأعزل.
والحاصل أن الانتفاضة الأولى ليست خيارًا متاحًا لمن أراده، ولا هي بالخيار المتروك في حال كان ممكنًا، وإنما كانت حالة نضالية مجتمعية فقدت شروطها الموضوعية بعد مجيء السلطة الفلسطينية، إضافة إلى خضوع حركة الجماهير لإرادة السلطة التي لا تكتفي بمنع الجماهير من التوجه إلى نقاط الاحتكاك مع الاحتلال، بل وتمنع احتشادهم داخل المدن، وفي المقابل فإن هذه الجماهير لا ترغب في الاصطدام بالسلطة التي تنتمي في وعيهم إلى الشعب الفلسطيني.
هذه السياقات الموضوعية التي يغفل عنها بعض أصحاب اقتراح استنساخ تجربة الانتفاضة الأولى، من الضروري استحضارها في ظل الأوضاع القائمة، والأحداث والمناسبات التي تحتشد في هذه الفترة، لجعل المقاربات أكثر موضوعية وإفادة.