تعيش
تونس مخاضا متواصلا يتسم بالصعوبة والارتباك، فالبلد اليوم ينتظر نهاية الحالة المؤقتة للمؤسسات التنفيذية والتشريعية، وذلك من خلال تنظيم
الانتخابات البرلمانية والرئاسية التي تفصلنا عنها بضع أسابيع، لكن رغم صحة المسار الذي سلكته الطبقة السياسية، إلا أن المخاوف لا تزال تخيم على الأجواء العامة.
تعود هذه المخاوف إلى عوامل رئيسية يمكن حصرها فيما يلي:
يحتل الهاجس الأمني مكانة رئيسية، فوزير الداخلية عبد اللطيف بن جدو أكد مؤخرا أن التحقيقات التي تمت مع الموقوفين من العناصر المسلحة كشفت عن وجود مخططات موجهة لاستهداف الانتخابات القادمة، وهي الفرضية التي اتفقت حولها القوى السياسية والمدنية.
فالجماعات التي تبنت منهج الإرهاب لا تعترف بالديمقراطية ولا بالمسار الانتقالي، وليس من مصلحتها أن تسترجع البلاد عافيتها الأمنية، وأن تستقر فيها
الأوضاع اقتصاديا وسياسيا، ولذلك، تعمل على توجيه ضربات موجعة للأمنيين والعسكريين كلما سنحت لها الفرصة، بحجة أنهم يجسدون الطاغوت حاليا في تونس، بل إن " كتيبة عقبة بن نافع" ذهبت إلى حد الدعوة إلى إعلان ولائها لتنظيم داعش، ودعت " تنظيم الدولة الإسلامية إلى توسيع دائرة عملياته لتشمل أيضا البلاد التونسية"، وقد سانده في ذلك تنظيم ولد مؤخرا بالجزائر ويحمل اسم "جند الخلافة".
رغم أن الحكومة تعمل على طمأنة الرأي العام، وتؤكد أن المؤشرات الأمنية الخاصة بالجريمة والعنف "ممتازة"، وأن وزارة الداخلية قد وضعت خطة لتأمين الانتخابات وحماية كل المرشحين الذين بلغتهم تهديدات مجهولة المصدر، إلا أن التحدي يبقى قائما، خاصة وقد أثبتت التجربة السابقة أنه كلما بدت الأوضاع مستقرة حدث ما لم يكن في الحسبان، رغم كل مظاهر الاستعداد والاحتياطات التي تم اتخاذها، فهذه الجماعات لا تزال تتمتع بالقدرة على المباغتة والهجوم.
التحدي الثاني سياسي، ويتعلق أساسا بالنخب المتنافسة والمتصارعة من أجل السلطة. فاليوم يوجد أكثر من 1300 قائمة حزبية أو مستقلة مقدمة للانتخابات التشريعية، إلى جانب أربعين مرشح نهائي للمشاركة في الرئاسية، وذلك بعد أن أسقطت الهيئة المستقلة للانتخابات حوالي ثلاثين طلب لم يحترم أصحابها الإجراءات القانونية.
وأمام هذا العدد الكبير من المرشحين فإن التونسيين يشعرون بالدوار، لأنه لم يسبق لهم أن واجهوا مثل هذا العدد الضخم من الذين يرون في أنفسهم الكفاءة لعضوية البرلمان أو لإدارة شؤون الدولة من خلال قصر قرطاج، فتونس قبل الثورة حكمت لأكثر من نصف قرن برئيسين فقط.
وكانت مجرد النية في منافسة الحاكم الأوحد قد تعرض صاحبها إلى التشكيك في مداركه العقلية كما حصل في عهد الرئيس بورقيبة، أو تجعله في حالة حصار أمني كامل مثلما جرى مع المنصف المرزوفي في ظل حكم الرئيس بن علي.
فالجنرال قد " اجتهد " قليلا، عندما قرر أن يصنع لنفسه " منافسين " صرحوا يومها بأن الرئيس الأصلح لتونس هو بن علي، وأن مهمتهم في السباق الرئاسي هو تدريب الشعب على تعددية زائفة.
لقد كثر الحديث عن حالات التزوير والتزييف التي حصلت في ملفات الكثير من مرشحي رئاسة الجمهورية. وهو ما أحدث صدمة للرأي العام، إذ كيف يسمح البعض لأنفسهم بارتكاب مثل هذه الجريمة وهم يتقدمون لأكثر المناصب رمزية في البلاد، فالقانون الانتخابي يشترط على كل مرشح أن يقدم تزكية عشرة أعضاء بالبرلمان أو عشرة آلاف مواطن موزعين على اثني عشر ولاية، والغريب أن الفضيحة تجاوزت حدود المواطنين العاديين، وإنما شملت أيضا بعض أعضاء المجلس الوطني التأسيسي، حيث قيل إن هؤلاء طلبوا رشاوى لمنح تزكيتهم لعدد ممن طالبهم بذلك، وهو ما كان له سيء الوقع على الرأي العام.
الطبقة السياسية مدعوة إلى حماية الرأسمال الرمزي والأخلاقي الذي من شأنه أن يبنِ الثقة ويؤسساها بين الشعب ونخبته.
التحدي الثالث يبقى اقتصاديا واجتماعيا. فحكومة التكنوقراط التي عوضت السياسيين تحاول أن تبقى واقفة رغم تراجع عديد المؤشرات الاقتصادية الهامة، وهي إذ نجحت في امتصاص حالة التشنج والتوتر على الساحة الاجتماعية، إلا أنها تتعرض هذه الأيام إلى غضب متزايد من بعض الجهات، ومن النقابات.
هناك ثلاث ولايات الآن غاضبة، وتقوم بتحركات ذات طابع مطلبي، وهي جربة وصفاقس والحامة، ولكن الحكومة تقف عاجزة عن تلبية مطالب سكانها.
أما الإشكال الثاني فهو مع الاتحاد العام التونسي للشغل أكبر تجمع نقابي في تونس، فالحكومة أعلنت عن قرار من جانب واحد بأنه لن تكون هذه السنة مفاوضات من الاتحاد تتعلق بالزيادة في الأجور، وأن المفاوضات القادمة يجب أن تكون مع الحكومة القادمة التي يفترض أن تتشكل في مطلع السنة الجديدة بعد الانتهاء من مسلسل الانتخابات، وهو ما رفضته قيادة الاتحاد، ورأت فيه تعسفا من قبل الحكومة واتهمتها بأنها المسؤولة عن الزيادة في الأسعار بسبب سياساتها، مما أثر على القدرة الشرائية للمواطنين، وأسهم في خلق مناخ اجتماعي متوتر في سياق سياسي دقيق وصعب.
هكذا تبدو السفينة التونسية، تسير في أجواء صعبة، الرياح تعاكسها في معظم الأحيان، لكنها إلى حد الآن خطها العام سليما، وبوصلتها لم تتعطل، والأمل في أن تنهي هذه المرحلة الانتقالية بسلام لا يزال قائما.