من أراد أن يقف علي قواعد الصعود والترقي في "دولة
مبارك" فليدرس حالة اللواء ثروت جودة، وكيل جهاز المخابرات سابقاً، والذي عندما طالعت حديثه في جريدة "الوطن"، أيقنت أن
مصر محروسة حقاً ببركة أولياء الله الصالحين، كما يقول المتصوفة!.
من يطالع ما قاله الرجل، سيقف حتماً علي أنه ضحل ضحالة تغني عن أي علم، رغم أنه حصل علي أعلى رتبة عسكرية، ورغم أنه كان يشغل موقع وكيل جهاز المخابرات العامة. لا يؤثر في المشهد ما قاله رئيس الجهاز السابق اللواء رأفت شحاتة، من أنه مجرد "عميد" وليس "لواء"، وأنه لم يشغل موقع وكيل الجهاز، فالمؤكد أن رجلاً بهذا "التهافت" قد ظل يترقى إلى أنه وصل إلى رتبة عسكرية متقدمة، وظل في موقعه إلى أن خرج علي التقاعد بعد أن وصل إلى أرذل العمر!.
"ثروت جودة" أراد أن يسئ للرئيس محمد
مرسي، فكان في حكم من وقف فبصق لأعلي فسقط ما أخرج علي وجهه، فنظر لأسفل وبصق، فإذا بالبصقة تقع في صدره!.
لقد أراد "جودة" أن يقدم الرئيس المنتخب الدكتور محمد مرسي على أنه كان مجرد "خيال مآتة"، فلم يكن جهاز المخابرات العامة يمده بالمعلومات الصحيحة، وكان يجري تضليله، كما لم يمكن من الحصول علي وثيقة واحدة، ليكون ما قاله دليل براءة مرسي من الاتهام بالتخابر.. لأحظ أن الرئيس أحيل مؤخراً للمحاكمة بتهمة تهريب وثائق للمخابرات القطرية ولقناة الجزيرة، وأنه حصل على هذه الوثائق بحكم وظيفته!.
لقد بح صوت أنصار مرسي وهم يعيدون ويزيدون، في أن الرئيس لم يفشل، ولكنه تم إفشاله من قبل الدولة العميقة، التي تأمرت عليه، ولم تتعاون معه. وكان "ثروت جودة" الدليل علي صحة ما يروج له القوم.
واللافت، أن الرجل الذي كان يعمل في جهاز معتبر، يتحدث بكلام لا ينطلي على أي "صريخ ابن يومين"، ويقف علي تهافته "الجنين في بطن أمه"!.
فقد قال إن من بين القضايا التي يحاكم عليها مرسي، وتؤكد عمالته لجهات أجنبية منعت جهاز المخابرات العامة من أن يتعاون معه، ويعمل علي تضليله بالمعلومات الكاذبة، هي التخابر مع الولايات المتحدة الأمريكية، ويستطيع أي إنسان أن يقف علي عدم دقة ما قال، بالإطلاع علي القضايا التي يحاكم فيها الرئيس. فلا أظن أن جماعة الانقلاب تستطيع أن تحاكمه بهذا الاتهام، لأن "رئيسهم المختار" هو بالحسابات الإسرائيلية ضمن الحلف الإسرائيلي في المنطقة!.
وإذا كان اللواء جودة يفتقد للدقة بهذا الشكل، فكيف تمكن من الاستمرار في العمل، إلى أن صار لواءً كما يقول، أو عميداً كما يقول اللواء شحاتة؟!
المضحك، هو ما ذكره جودة من أن الرئيس محمد مرسي كان في السجن بتهمة التخابر، إلى أن هرب منه في قضية اقتحام السجون أثناء أحداث 25 يناير (لاحظ أنه لا يسميها ثورة).
وهو كلام يؤهله بالكاد للعمل مذيعاً في احدي فضائيات الثورة المضادة، لأنه يفتقد للصدق، ويطلق الاتهامات جزافاً بدون دليل، وربما بدون وعي، ذلك بأنه لو "ذاكر" لعلم أن الرئيس مرسي كان في هذه المرحلة في السجن، في قضية شرف، وبتهمة الانحياز للثورة، وليس لكونه تخابر مع دولة أجنبية. فقد عقد مكتب الإرشاد اجتماعاً لمناقشة المشاركة في ثورة يناير، وكان الدكتور مرسي ضمن آخرين قادوا اتجاه الموافقة علي مشاركة الجماعة كتنظيم فيها، وفي المساء تم اعتقال ستة من مكتب الارشاد من بينهم مرسي، وخمسمائة من أعضاء الجماعة. ونشر خبر القبض عليهم في صحف السبت 29 يناير 2011، في اليوم التالي لجمعة الغضب، بما يؤكد هذا المعنى، وكان مصدر خبر الاعتقال هو وزارة الداخلية ومع ذلك لم يصل بها التجني للقول أن مرسي متهم بالتخابر!.
لا ألتمس براءة محمد مرسي من الاتهام بالتخابر بالرد على ما ذكره جودة، فهذا لا يشغلني من ناحية، ومن ناحية أخرى أنا مؤمن بأن الرئيس أكثر وطنية ممن يرمونه باتهامات العمالة، وقد جرى التآمر عليه دولياً، ومن الاتحاد الأوربي للبيت الأبيض، لأنه تحدث عن ضرورة أن تملك مصر غذائها، وسلاحها، ودوائها.
فالذي شغلني في كلام اللواء ثروت جودة هو المستوى المتواضع في التلفيق، الذي يجعله يتحدث كما لو كان يروي قصص ما قبل النوم للأطفال، ولا يخلو الأمر من فكاهة!.
فقد ذكر أن مرسي متهم في ثماني قضايا، "لكن لأن
السيسي رجل رحيم ويراعي الله كثيراً فقد دمجها في قضيتين فقط"!.
ليكون جودة كالدبة التي قتلت صاحبها، عندما يصور أن مراعاة السيسي لله "كثيراً"، جعلته يتواطأ مع متهم قاد نشاطاً هداماً لضرب الأمن القومي المصري، فيدمج ثماني قضايا في قضيتين فقط..
ثم ما هو دور السيسي في الموضوع، أليس الأمر يقوم عليه قضاء مصر "الشامخ"، الذي يدفع السيسي ثمن استقلاله، على النحو الذي ذكره في معرض حديثه عن قضية سجن صحفيي الجزيرة، عندما يقدم نفسه للرأي العام الدولي على أنه لم يكن يرغب في سجن الصحفيين لكنه يدفع ثمن استقلال القضاء المصري!.
المبهج هو رواية "جودة" عن طارق حجي، الذي كان يجلس مع رئيس المخابرات المركزية الأمريكية، وفي حضور وزير الخارجية الأمريكي، عندما قال جون كيري: "إحنا اللي نجحنا مرسي" ثم دخلت "آن باترسون" وكررت نفس الجملة. وكررها أيضاً رئيس "السي آي ايه": "إحنا اللي نجحنا مرسي"!.
السبب الذي ذكره الأمريكان سالفي الذكر عن سر عملهم على إنجاح مرسي رغم أنه لم يكن ناجحاً، أن مرسي لم يكن يريد صنع قرار وكان "عايز انجر فتة ويقعد يأكل بس".
وهنا هتف "طارق حجي" أنه سيطلب جلسة استماع في الكونجرس الأمريكي تحت القسم ليروي فيه ما قيل له!.
عندما سئل خالد الذكر "ثروت جودة": لكن جلسة الاستماع لم تعقد؟.. أجاب: " ربما تعرض حجي لضغوط!.
اللافت أن "طارق حجي" لم يعلق على هذا الكلام المنسوب إليه، ثم ما هي قيمته القانونية التي ترتب له وضعاً يمكنه من أن يهدد بجلسة استماع للكونجرس "تحت القسم" وهو مواطن مصري.
والسؤال لواحد كان يشغل موقع وكيل جهاز المخابرات: هل يجوز لمواطن مصري أن يلتقي برئيس مخابرات دولة أجنبية، على الرحب والسعة، وعلى نحو يجعلهم يتحدثون معه بصراحة ويعلن له الواحد تلو الآخر منهم أنهم أنجحوا مرسي؟!.
لقد هاجم "ثروت جودة" المنظمات الحقوقية وأشار إلى أن جهاز المخابرات رصد تقاضيها أموالاً من الخارج منذ سنة 1990، لكن "شلة المستشارين" حول مبارك حالت دون التصدي لهؤلاء العملاء والخونة.
ولم ينتبه صاحبنا إلى أن كل القائمين على المنظمات المعنية بكلامه هم ضمن الحلف الاستراتيجي لعبد الفتاح السيسي. ولا يري "جودة" أحداً وطنياً في مصر بجانب عمر سليمان إلا السيسي ووزير الدفاع.
إنها الدبة التي قتلت صاحبها، وأكدت حجم الجرائم التي ارتكبها حسني مبارك، بعمله علي تجريف مصر لنفاجأ بمستوى "ثروت جودة"!
قديما قيل: تكلم حتى أراك.. ولقد تكلم صاحبنا فتذكرت قصة كانت مقررة علينا في الصف الخامس الابتدائي اسمها "عقلة الإصبع"!