قضية الساعة في
السودان، هي قرار الحكومة بإغلاق المراكز الثقافية
الإيرانية، وما من مقال أو تقرير صحفي تناول القرار، إلا وجاء فيه أنه جاء متأخرا، وما أثار حيرتي هو أنه لم يحدث أن تطرق صحفي أو كاتب مقالات صحفية إلى السؤال الجوهري: ولماذا أصلا تمت الموافقة قبل سنوات طويلة على إقامة تلك المراكز؟ وقد عرفت العاصمة السودانية لسنوات مراكز ثقافية أمريكية وبريطانية وألمانية وفرنسية، ولكنها جميعا كانت تملك قواعد جماهيرية وكان الرابط بين الطرفين "اللغة"، ومن ثم كان نشاطها يقتصر على تعليم اللغات والتعريف بآداب وثقافات تلك البلدان من خلال المحاضرات وعرض الأفلام وفتح فصول لتدريس اللغات.
وبالتأكيد فإن القواسم المشتركة بين السودان وإيران أكبر من تلك التي بين السودان والبلدان آنفة الذكر، وبتعبير أكثر دقة هناك قاسم مشترك واحد، ولكنه شديد الثقل والأهمية بين السودان وإيران، ألا وهو الإسلام، وكان السودان هو البلد العربي الوحيد الذي شهد مظاهرات شعبية ضخمة وعفوية احتفالا بانتصار الثورة الإيرانية على نظام الشاه الطاووس، ولم يكن كون أن الثورة تلك أسفرت عن قيام حكومة "شيعية" يقلل في فرحة أهل السودان بزوال الحكم الشاهنشاهي، لأن السودانيين كانوا لا يتحسسون تجاه
الشيعة، بل لم يكونوا يتحسسون تجاه مواطنيهم المسيحيين واللادينيين، وحتى اليهود (وكانت بالبلاد جالية يهودية تقلصت بعد حرب 1967 بعد تنامي موجة العداء تجاه إسرائيل، فهاجر معظم أفرادها طوعا، اي دون ان يتعرضوا لأي مضايقات رسمية أو شعبية)، وأجزم بقلب جامد بأن نحو 90% من المسلمين السودانيين لا يعرفون ما إذا كانوا مالكيين أو شافعيين أو أحناف أو حنابلة، دون ان يعني ذلك أنهم تنابلة، بالعكس، بل يعني أنهم غير معنيين بتفاصيل تقسيم المسلمين حسب المذاهب والطوائف.
والشاهد هو أنه لا توجد مجرد خميرة ثقافية مشتركة بين السودانيين والإيرانيين، تبرر قيام مركز ثقافي إيراني في اي بقعة في السودان (والرابطة الإسلامية ليست ثقافية بل عقدية روحية)، وبعد مطالعة طوفان المقالات التي تؤيد قرار إغلاق المراكز الثقافية الإيرانية في السودان، والإحساس بالخجل نيابة عن كتّاب تلك المقالات الذين لم يفتح الله عليهم أو على فقهاء السلطان في الخرطوم بتساؤل عن مبررات التصريح بإقامتها، فهمت أن تلك المراكز كانت واجهة لـ "التشييع".
ومنذ سنوات وأنا أسمع حكايات عن إنفاق إيران لملايين مملينة لكسب مسلمين سودانيين للمذهب الشيعي، وعن أكثر من فلان واحد "ما كان له قرش وصار له كرش"، بعد أن تشيع نظير حافز مادي، وفهمت من التقارير الصحفية أن عدد الشيعة في السودان بلغ نحو عشرين ألف، ولو كان هذا هو إنجاز تلك المراكز على مدى ربع قرن لكان حريا بإيران المبادرة بإغلاق المراكز ومساءلة القائمين عليها على تعاسة أدائهم وضعف إنجازهم، وحتى لو استبعدنا أمر استمالة السودانيين الى المذهب الشيعي بحوافز مالية، فما الغاية أصلا من السعي من حيث المبدأ بأسلوب منهجي وكسياسة حكومية ل"تشييع" أهل السنة، وما العائد والفائدة من وراء ذلك؟ هب أن 200 ألف سوداني صاروا شيعة، ماذا تجني الحكومة الإيرانية من وراء ذلك؟ أم أن الحكاية فيها "إن"؟
الصينيون صاروا أكبر جالية أجنبية في السودان، ومع هذا لا يبشرون بالكونفوشية أو الشيوعية، بل يحرصون على إيجاد سوق لبضائعهم المضروبة، بل ويعملون بالمبدأ السوداني "قدِّم السبت تلقى الأحد"، يعني بادر بالعون وسيرد لك من يتلقى العون الجميل لاحقا، وقد قدمت الصين للسودان معونات ضخمة، وفازت شركاتها بعقود ضخمة في السودان، وأعرق وأشهر مدرسة في الخرطوم تحمل اسم "كمبوني" وهو القس الإيطالي الذي أسسها قبل نحو سبعين سنة، ومعظم طلابها مسلمون ولا يتم فيها ذكر النصرانية ولو عرضا، ولكنه بالتأكيد أسسها ليرفع من أسهم كنيسته بين السودانيين، ولكم يا حكام بلاد فارس في الأسلوب الذي تتبعه الكنائس في التبشير بالمسيحية أسوة: يذهبون إلى الأحراش والمناطق التي لا يعتنق الناس فيها ديانة سماوية، ويفتحون العيادات والمدارس، وبعد أن يصبح لتلك المرافق زبائن ثابتين، يبدأون في التبشير وينجحون (ولكن وكما قال القس الجنوب أفريقي الأشهر ديزموند توتو: أتى الرجل الأبيض إلى أفريقيا حاملا الإنجيل، فأمسك الأفارقة بالإنجيل وأمسك البيض بالمال ثم السلطان).
وأختتم مقالي هذا بمناشدة "
علماء السودان" أن يسدوا حلاقيمهم التي انفتحت خلال الأيام القليلة الماضية لتشيد بقرار إغلاق المراكز الثقافية الإيرانية وتستنكر شتم الصحابة وبعض الخلفاء الراشدين (وكأنما الشتم حدث في يوم الإغلاق)، وإذا قلت إن قيام إيران بإنشاء مراكز ثقافية في السودان حكاية فيها "إن"، فإن قرار الحكومة السودانية بإغلاق تلك المراكز فيه "إنات" كثيرة، فهل فعلت ذلك بكامل إرادتها أم استجابة لما "يطلبه المتنفذون"؟!