طوال أسابيع من الحرب والمفاوضات، حرصت أصوات القيادات
الفلسطينية المختلفة، سواء في حماس والجهاد أو سلطة الحكم الذاتي وحركة فتح، على توكيد وحدة الموقف الفلسطيني: الموقف من العدوان الإسرائيلي وإدارة الحرب والموقف في
المفاوضات.
يوم السبت الماضي، 30 آب/أغسطس، خرج السيد محمود عباس، زعيم حركة فتح ورئيس سلطة الحكم الذاتي، ليحمل حماس مسؤولية دمار قطاع غزة، مشيراً إلى أن الحركة كان بإمكانها تجنب مثل هذا الدمار لو أنها وافقت مبكراً على المبادرة المصرية. لم يكن لأحد أن يستغرب تصريحات عباس، بالرغم من أنها جاءت سريعاً بعد النهاية المفترضة للحرب، التي توصل لها الوفد الفلسطيني الموحد بعد مفاوضات شاقة. السرعة في ردة عباس على وهم «وحدة الموقف الفلسطيني» هي المدهشة، ولكن الردة نفسها ليس فيها ما يثير الدهشة.
فبالرغم من المصالحة الفلسطينية، التي أعادت الوحدة السياسية بين قطاع غزة والضفة الغربية، ومشهد التوافق الاستعراضي في الحرب والمفاوضات، بل وموافقة القوى الفلسطينية المختلفة على اتفاق نهاية الحرب الذي يتضمن عودة كاملة للسلطة إلى قطاع غزة وعودة إشرافها على المعابر وإدارة عملية إعادة البناء في القطاع، فمن الواضح أن هشاشة بنية
الحركة الوطنية الفلسطينية لم تعالج بعد. هذا إن تصورنا أن بالإمكان علاجها فعلاً.
كان الاضطرار، وليس أي شيء آخر، هو ما دفع حماس والسلطة الفلسطينية إلى اتفاق المصالحة. ويعود اضطرار "حماس" إلى تفاقم الحصار العربي – الإسرائيلي على قطاع غزة، بعد التحول السياسي الكبير في مصر، الذي أطاح الرئيس مرسي وجاء إلى الحكم بنظام لم يخف عداءه لحماس ولكل قوى التيار الإسلامي السياسي في الإقليم. ما تصورته "حماس"، بالرغم من أن التفاوض حول المصالحة لم يكن جديداً، وقد خطا بالفعل خطوات ملموسة أثناء حكم الرئيس محمد مرسي، أن المسارعة بالمصالحة، وتشكيل حكومة وحدة وطنية، قد يفتح نافذة أوسع للقطاع وأهله نحو مصر. وحتى إن لم تغير دولة الاحتلال موقفها من القطاع، فإن النافذة المصرية قد تكفي لتخفيف معاناة أهالي القطاع المحاصر.
أما قيادة سلطة الحكم الذاتي، ورئيس السلطة على وجه الخصوص، فكان اضطرارها من نوع آخر. أراد أبو مازن المصالحة بعد أن أدرك أن محاولة إدارة أوباما الثانية لدفع مسار التفاوض إلى الأمام، التي قادها وزير الخارجية كيري، بدون إيمان عميق بجدواها من الرئيس الأمريكي، لم تصل، ولن تصل، إلى نتيجة، وأن السلطة باتت تواجه جداراً مسدوداً في المفاوضات حول التسوية، التي ألقت في سلتها بكل أوراقها. وأراد المصالحة، فوق ذلك، لأنه استشعر خطراً داهماً من الدعم الإماراتي – المصري المتزايد لمحمد دحلان، وتلويح نتنياهو المتكرر بإمكانية أن تنقل الدولة العبرية دعمها لدحلان. يدرك أبو مازن، بالطبع، أن سلطة الحكم الذاتي، حتى بعد عشرين سنة على تأسيسها، لم تزل أسيرة الإرادة الإسرائيلية، وفي حال اتجهت حكومة نتنياهو إلى دعم دحلان، فإن الخطر لن يهدد رئاسة عباس وحسب، بل وكل طبقة السلطة والامتيازات التي تتمتع بها.
بيد أن ذلك لا يعني أن المصالحة كانت خياراً سيئاً في جوهره. الحقيقة، أن التصور الإسرائيلي لمستقبل الصراع على فلسطين يستند، في هذه المرحلة من الصراع، إلى فرضيتين أساسيتين: الأولى، فصل الضفة عن قطاع غزة فصلاً نهائياً، وانتظار الفرصة المناسبة لإلقاء قطاع غزة، بكل ما فيه من بشر، في وجه المجتمع الدولي؛ والثانية، استمرار عملية القضم التدريجي للضفة الغربية، وتبني سياسة ضغط ومماطلة، تشجع الفلسطينيين على الرحيل عن الضفة، أو على الأقل تمنع الزيادة السكانية، انتظاراً لفرصة في المستقبل يمكن خلالها طرد العدد الأكبر من السكان وضم الضفة رسمياً لدولة إسرائيل. على الرغم من اختلاف مشاربهم، وتباين اللغة السياسية التي يتحدثون بها، يتفق قادة التحالف الحكومي الإسرائيلي الحالي على ضرورة تجنب أي تسوية سياسية تشمل الضفة الغربية، وعلى ضرورة منع قيام كيان سياسي مستقل بين حدود 1967 ونهر الأردن. ما يختلفون حوله، هو كيفية تطبيق هذه السياسية، والطرق والوسائل التي ينبغي تبنيها لتحقيق هذا الهدف. ولذا، لم يكن من المبالغة الاستنتاج بأن ذهاب عباس إلى خيار المصالحة أثار غضباً جامحاً في حكومة نتنياهو والدوائر المحيطة به، وأن التصعيد الهائل في الحرب على غزة، استبطن، أيضاً، محاولة فصل مصير القطاع عن وضع الضفة الغربية. بهذا المعنى، كانت المصالحة خياراً صحيحاً، وكانت محاولة الحفاظ على موقف فلسطيني موحد أثناء الحرب والمفاوضات سياسة صحيحة كذلك. ولكن نتائج مثل هذا الخيار والسياسة لا تتفق بالضرورة مع الهدف المؤمل من كل منهما.
ليست المشكلة في تصريح عباس الأخير، ولا حتى في الحملة التي أطلقتها وسائل إعلام السلطة في الأيام التالية ضد حماس وقوى المقاومة، ولكنها أكبر من ذلك بكثير، وتتعلق بنهج كامل ونمط حياة وشروط وجود، لا يبدو أن قيادة السلطة تملك ما يكفي من الإرادة للتحرر منها. لم ينعكس اتفاق المصالحة بأي صورة ملموسة على المناخ السياسي – الأمني للوضع في الضفة الغربية، واستمر التضييق على النشاطات السياسية للقوى السياسية الإسلامية، واستمرت معها اعتقالات النشطاء الإسلاميين. نظر كثيرون إلى هذا الوضع قبل اندلاع الحرب على غزة باعتباره انعكاساً لتباينات في مواقف قيادات السلطة وأجهزتها من المصالحة، أو صعوبة تغيير العقلية التي بنيت عليها أجهزة السلطة الأمنية، ورأوا بالتالي أن المراهنة على الزمن والصبر والحرص على سياسة المصالحة كفيلة في النهاية في إحداث التغيير. وما إن اندلعت الحرب، وأصبح واضحاً أن انتفاضة الضفة وخروج أهلها لمواجهة الاحتلال سيكون له بالغ الأثر على موازين القوى، حتى توقع آخرون أن السلطة وأجهزتها سرعان ما ستغير من تصرفاتها وسياساتها. ولكن التغيير، في الواقع، كان شكلياً؛ وحتى أثناء أيام الحرب الطويلة، لم تتوقف الاعتقالات ولا التضييق. وهناك ما هو أخطر؛ فسواء على مستوى سياسة السلطة من العلاقة مع الاحتلال، أو على مستوى رؤية السلطة لحركة الثورة والتغيير في المجال العربي، تتخذ قيادة الحكم الذاتي موقفاً لا يوحي بحقيقة حرصها على حركة التحرر الوطني
الفلسطيني، التي يفترض أن تنتمي لها.
بالرغم من استمرار سياسة مصادرة واقتطاع أراضي الفلسطينيين في الضفة، الحصار على قطاع غزة، ثم الحرب، واتضاح إخفاق استراتيجية التفاوض وليس سوى التفاوض، لم تتخذ قيادة السلطة إجراء سياسياً أو قضائياً – دولياً واحداً لمواجهة العدوان الإسرائيلي المستمر على الأرض وسبل حياة الفلسطينيين، وعلى إمكانية التوصل إلى حل سياسي للصراع على فلسطين. الموقف الوحيد للسلطة في مواجهة الكارثة المتفاقمة التي يواجهها شعبها هي المراقبة. وبالرغم من أن الشركاء الرئيسيين في الحركة الوطنية الفلسطينية ينتمون إلى التيار الإسلامي السياسي، وأن هؤلاء الشركاء يتحملون العبء الأكبر من الدفاع عن قطاع غزة وأهله، تحرص السلطة على توكيد التحاقها بالهجمة التي تتعهدها دول عربية ضد القوى الإسلامية السياسية، وتظهر استهتاراً لا يخفى بدماء الشعوب العربية، التي تناضل من أجل الحرية والتغيير، وتعمل على بناء علاقات وثيقة بأنظمة مثل نظام الأسد في دمشق. وحتى أثناء التفاوض «الموحد» من أجل وضع نهاية للحرب على غزة، لعبت السلطة دور القوة المناهضة لموقف قوى المقاومة في غزة، وساهمت خيارات السلطة في إضعاف موقف المقاومة ومطالبها في إيقاف العدوان ورفع الحصار عن القطاع وأهله.
ليست هذه مسألة شخصية، ولا ينبغي أن تكون كذلك. ولكن من الواضح أن السلطة، بأجهزتها ونمط تفكيرها وسلوك قياداتها، غادرت منذ زمن موقعها في الحركة الوطنية الفلسطينية، وأن مراجعة لابد أن تجري لخارطة القوى المختلفة في حركة التحرر الوطني الفلسطيني. أسست السلطة أصلاً من أجل تلعب دوراً وظيفياً في جعل عملية الاحتلال والسيطرة الإسرائيلية أيسر وأقل تكلفة. وبمرور الزمن، عقدان كاملان من الزمن، نجح ميزان القوى المختل في الصراع على فلسطين، من ناحية، والأساس الذي بنيت عليه السلطة، من ناحية أخرى، في امتصاص توجهات التحرر الوطني لدى الطبقة الفلسطينية التي تسلمت مقاليد سلطة الحكم الذاتي، ولم تزل تعض عليها بأسنانها وأظافرها.