كتاب عربي 21

حزب النهضة بين الليبرالية الفجة وبين الاجتهاد الاجتماعي

1300x600
يشكل حزب النهضة المصنف في أحزاب الإسلام السياسي العمود الفقري للحياة السياسية في تونس بعد الثورة ويقدم نفسه كحزب معتدل في مقابل جماعات الإسلام المتطرف الإرهابي.

 والحياة السياسية  تجري الآن في علاقة مباشرة معه إما بالتحالف معه أو بمعاداته  بما يجعله في قلب رحى الفعل السياسي. لكن ما هو الوجه الاقتصادي  لهذا الحزب وهل يملك أو يقترح تغييرا حقيقيا في مجتمع يفتقد بعد مشروع دولة اجتماعية طالما طالب بها الناس وإن بتسميات مختلفة.

حزب مظلوم يستثمر في المظلمة

مقارنة أعمار الأحزاب تجعل النهضة وريث الاتجاه الإسلامي الحزب الأقدم عمرا لكنه الحزب الذي لم يظفر بوجود قانوني إلا بعد الثورة وذلك بعد سلسلة من الملاحقات عطلت نموه الطبيعي كما عطلت التعرف على المشروع الذي ينوي طرحه على التونسيين. لكن دون استعراض تاريخ الحزب منذ إعلان التأسيس سنة 1981 يمكن أن نؤكد منذ البداية على خاصيات ظاهرة لهذا الحزب هي أنه حزب يتطور ويتأقلم ويتغير لكنه في كل حركة تغيير يفقد لونه ولا يجد لونا آخر غير أن يكون حزبا ليبراليا يقترب بسرعة من أحزاب اليمين المسيحي الأوروبي رغم أنه يعلن أنه يريد أن يكون أقرب إلى تجارب الديمقراطية الاجتماعية.

حزب يتطور ويتأقلم

نشأ الحزب في حضن الإخوان المسلمين ضمن مشروع استتابة المجتمع وأطروحة الحاكمية لكنه تعرض إلى اختبار حقيقي في الاحتجاج النقابي الاجتماعي سنة 1978 فعدل موقفه من النضال النقابي وتبنى أطروحة احتجاجية أقرب إلى اليسارية وكان ذلك مؤشر تغيير قرأه خصومه كما سيقرؤون كل اجتهاداته دائما على انها نفاق سياسي وركوب على الأحداث وهذا جزء من مظلوماتيه الكثيرة. 

والتطور الثاني اللافت في مسار الحزب هو قبوله بالعمل السياسي الليبرالي بإعلان قبوله المشاركة في التشكل القانوني والعمل العلني والخضوع لاختبار الانتخابات والتسليم بنتائجها. 

وتحفل أدبيات الحزب التي صدرت في أجواء ملاحقة أمنية كاسرة بنصوص مرجعية في ذلك لم يغيرها بل كرسها في كل لوائح مؤتمراته السرية. وقد كان ذلك تميزا واضحا عن كل أحزاب الطيف الإسلامي العربية أدت إلى تكفير قيادته ووصفه بالمروق.

إلى ذلك نضيف تنظيره لمشاركة المرأة في العمل السياسي العلني  ترشيحا وانتخابا وهو "طوطم" كسره قبل غيره من القائلين بالمرجعية الاسلامية التي ترى في المرأة كائنا ضعيف المدارك السياسية ويوكل اليها مهام بيتية صرفة.

هذه الاجتهادات الفكرية جعلت من الحزب علامة فارقة في خطاب الإسلامي السياسي   العربي بل تحول في بعض الحالات ولدى بعض الجماعات الإسلامية إلى مرجع مختلف عن المرجعية الإخوانية  المؤسسة.

 وقربته إلى نموذج إسلام تونسي  يعلن الانتماء إلى المرجعية الاصلاحية لعصر النهضة التونسي أكثر مما ينتمي إلى أية مرجعية شرقية وازدهر خطاب التأقلم بشكل متسارع بعد العودة من المهاجر وتصدر العمل السياسي الوطني وتكرس الخطاب الاصلاحي  في النقاشات الجذرية  اثناء بلورة الدستور التونسي في مسائل تتعلق بحرية الضمير والتعبد والتعايش بين الكفر والإيمان. 

وهو التأقلم الذي جعل التيارات السلفية ذات المرجعية الوهابية  تكفره وتلعنه. بما جعله بين عدوين يرفضان وجوده التيار السلفي بمرجعية تكفيرية وهابية وتيار اليسار العربي و القومي فضلا عن اليسار الحضري الفرنكفوني.

هذه التنظيرات مضافة إلى تراث الاضطهاد جعلت الحزب مقبولا لدى طيف واسع من التونسيين صوتوا له في انتخابات 2011 ووضعته في الموقع القيادي للفترة الانتقالية وأخضعته الى اختبار السلطة في مرحلة قاسية ومصيرية لكل حزب يرى في نفسه مشروعا تأسيسيا. لكن الاجتهاد في المسالة الاجتماعية وتقديم تصور لإسلام اجتماعي تأخر بعد. وربما استمرأ الحزب النقاش العقدي على طرح مشروع الدولة الاجتماعية.  لقد نجا من ذلك لما جذبه خصومه إلى ملعب يفضله وهم ينوون إرباكه.

حزب إسلامي يقود مرتبكا سلطة انتقالية  

 لقد أفلح الحزب في النجاة من محاولة اقصائه من المشهد السياسي وحد من خساراته واعتبر أنه نجا من مشنقة استئصالية نصبت له لما تقدم للسلطة أو فوضه الشارع للقيادة في ظرف انتقالي. لكنه استفاد مرة أخرى (أو يمكن أن يستثمر بأريحية ) من كونه حزبا مظلوما لم يمنح فرصته طبقا لقواعد الديمقراطية التي فوضته. وقد سمح له هذا الخطاب بحفظ بنيته التنظيمية وضم أجنحته المتعددة تحت سقف الحفاظ على السفينة حتى تتغير الريح. لكن في الأثناء ماذا يقدم الحزب لجمهور ينتخبه عقب ثورة  اجتماعية لا شك فيها؟

يمكن ضمن خطاب المظلومية أن نسمع خطابا يتذرع بالإقصاء الذي لم يسنح للحزب ببلورة مشروعه الخاص كما نسمع تبريرات من قبيل أن ليس للآخرين أيضا مشروعا يقدمونه وهو أمر يسهل تسويقه لكن إلى حين. بما يضع الحزب والمؤلفة قلوبهم له أمام السؤال المصيري ما هو المشروع المقترح لعلاج معضلات المجتمع التونسي المتخلدة بذمة عصور الانحطاط وعصر الدولة الوطنية؟

حزب التراحم ليس حزبا اجتماعيا 

إذا كان التأقلم مع (أو منافقة) مشروع الإصلاح الفكري والثقافي التونسي يؤدي إلى طمأنة طيف واسع من التونسيين حول مستقبل علاقاتهم مع الإسلام والتفكير الإسلامي رغم كلفة التكفير المسلطة على الحزب من مرجعيات وهابية، وإذا كان إعلان التكيف الليبرالي مع الثقافات الوافدة/ الغربية منها (خريطة حقوق الانسان المرجعية الكونية) يمكن أن يسوق للحزب في الغرب ويطمئن جمهورا غربيا مرعوبا من الإرهاب المسلح الذي ربط بالإسلام عامة؛ فان ذلك غير كاف ليجيب على السؤال الاجتماعي فالمعضلات الاجتماعية لا تحل بخطاب التراحم والصدقات بل بدولة اجتماعية مؤسسة على قواعد القانون الوضعي. فماذا يقترح الحزب في هذا الصدد؟

البرنامج الانتخابي الذي دخل به الحزب انتخابات 2011 والممارسة السياسية للحزب في السلطة ورغم طابعها الانتقالي الذي قد يصلح حجة لتأجيل كشف البرامج الجذرية لم يأت بما يخالف السائد قبل الثورة. فالسياسات الاجتماعية القائمة لم تتعرض للتغيير وإن لم يزد عليها فبقيت ترقيعية فئوية قائمة على الأسس المهنية للضمان الاجتماعي والتكافل الاجتماعي العفوي والتطوعي. والسياسيات التشغيلية لم تتجه إلى حل معضلة البطالة (لا في الخطاب ولا في الممارسة) بما جعل المعضلة الأشد التي قامت عليها الثورة (التشغيل استحقاق) مسألة مؤجلة تعالج بحلول التشغيل في القطاع العام دون ابتكار حلول مختلفة.

أما العلاقة مع رأس المال الخاص فقد حظيت بتبرير كاف ليكشف أن الحزب لا يملك ولا يقترح أن يغير وجهة العمل الاقتصادي القائم على المبادرة الخاصة وتحفزيها بالطرق الليبرالية المعمول المفروضة ضمن الإصلاح الهيكلي منذ سنة 1986. أي العمل طبقا لاشتراطات مؤسسات الاقراض الدولي بكل مفاعليها المعادية للاجتماعي الوطني والمكرسة للإلحاق. بل أن بعض الجمل المتناثرة كشفت أن الحزب لا يمكن إلا أن يعمل خارج تحرير المبادرة الخاصة طبقا لحق الملكية المضمون شرعا.

الاجتهاد الاجتماعي الذي يتأخر

سيظل القول بالسياق الليبرالي الكوني صالحا لتبرير صعوبة تغيير السياسيات خاصة في غياب  مقترح يساري جذري في هذا الاتجاه. إن هذا المشروع هو التميز المنتظر من حزب يرى في نفسه الأهلية للقيادة المستقبلية. ويمكن أن يجد في تراث الإسلام مسندا فقهيا في القول بالعدالة والإنصاف. أما كيف سيجسد مبادئ العدالة الاجتماعية عبر تشريعات وضعية متوافقة مع النص الديني المؤسس؟

الاستجابة لهذه الحاجة الملحة الآن وهنا هو الذي سيفصل في طبيعة الحزب ومستقبله ضمن الواقع التونسي وضمن تجربة الإسلام السياسي لكن الاقتداء أو الإعجاب بالنموذج التركي (الاردوغانية) وهي تجربة ليبرالية بامتياز يبدو كاشفا أن الحزب يتجه إلى إعادة انتاج التجربة الليبرالية السائدة بما يفقد الحزب كل تميز في إدارة البلد منذ الاستقلال ولن يشفع له أن ليس لشركاء الوطن ما يزايدون به عليه.