كتاب عربي 21

تحدي الدولة الإسلامية: هل ثمة استراتيجية أمريكية

1300x600
لا جدال بأن تنظيم الدولة الإسلامية هو الأشد دهاء ومكرا، والأكثر تنظيما وتخطيطا في تاريخ السلفية الجهادية، فعندما سقطت الموصل في 10 حزيران/ يونيو 2014 في قبضة أبو بكر البغدادي، كانت الأجهزة الاستخبارية وبيوت الخبرة الدولية فضلا عن الإقليمية والمحلية في غفلة وسبات تام.

فقد انشغلت طوال ثلاث سنوات بإعادة إنتاج الأنظمة السلطوية عبر تقنيات الثورة المضادة، وسياسات "الحرب على الإرهاب"، فقد ساندت الولايات المتحدة بطرائق عديدة سياسات المالكي في قمع الاحتجاجات السلمية، ووقفت إلى جانبه عقب عسكرة الاحتجاجات وفقدان الفلوجة وعملت على تسليحه، وساهمت في استصدار بيان مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة  في 11 كانون الثاني/ يناير 2014 بالإعلان عن دعم جهود الحكومة العراقية في الأنبار ضد ما أطلقت عليه العنف والإرهاب، كما تغاضت الولايات المتحدة عن سلوك نظام الأسد في سوريا، واكتفت بنزع سلاحه الكيماوي عقب مجزرة الغوطة في آب/ أغسطس 2013. 

وحده تنظيم الدولة الإسلامية كان يقرأ المشهد جيدا ويضع الخطط والاستراتيجيات للسيطرة على غرابة الموقف ويتلاعب بتكتيكات الثورة المضادة، ويتمدد كما يشاء في العراق وسوريا، وعندما بدأ التنظيم يختبر النزعة الإمبريالية من خلال التوغل باتجاه الأراضي الكردية، وبات يشكل خطرا على نفط الشمال وكركوك، واضطربت أسواق النفط، سارعت القوات الأمريكية بتوجيه ضربات عسكرية جوية لمنع تقدم التنظيم، وتعزيز قدرات البيشمركة، إلا أن ما يعلمه الجميع أن توغل قوات الدولة كان تكتيكيا، وقد انسحب ليس بسبب الضربات الجوية والقوات الكردية.

يدرك استراتيجيو تنظيم الدولة معضلات السياسة الدولية، ولا تغيب عنهم البداهات الأولية المتعلقة بالمصالح الحيوية الأمريكية والأوروبية في منطقة الشرق الأوسط، وفي مقدمتها حماية مصادر وإمدادات النفط، وضمان أمن وتفوق إسرائيل، إذ لم تحفل الولايات المتحدة بأرواح المدنيين التي أزهقها كيماوي الأسد، واكتفت بنزعه كهدية للمستعمرة الاستيطانية، كما أنها لم تعبأ بدماء مسيحيي الموصل وأزيديي سنجار، بل بمصالحها النفطية الحيوية. 

دعونا من سياسات النفاق والملق الفاضح، فالجسر الجوي الإنساني المزعوم، والضربات الجوية الأمريكية، لم تكن لحماية الأقليات وصون حقوق الإنسان، فالأغلبيات السنية تتعرض للقتل والامتهان والتشريد والاعتقال على مدى أكثر من ثلاث سنوات في سوريا والعراق، وسياسات "الحرب على الإرهاب"، ومبادئ "التدخل الإنساني"، ما هي سوى رطانات بلاغية جوفاء للهيمنة والسيطرة والتحكم والاخضاع اللا أخلاقية، وقد برزت عقب نهاية "الحرب الباردة"، فالآلة الجبارة لمكافحة الإرهاب وحماية الأقليات التي كانت معطلة تماما، عملت بقوة وفعالية على عقد جلسة لمجلس الأمن الدولي للمصادقة بالإجماع في 16 آب/اغسطس 2014 على القرار رقم 2170 الذي شدد العقوبات على تنظيم "الدولة الإسلامية"  التي تسيطر على مناطق في العراق وسوريا، و"جبهة النصرة" فرع تنظيم القاعدة في سوريا.

لقد كان رد تنظيم الدولة الإسلامية على الضربات الأمريكية مرعبا ومشهديا وفجا، ويعبر عن طبائعه الفاضحة التي لا تعرف المواربة ، فقد بث التنظيم  فيديو من إنتاج مؤسسة الفرقان الإعلامية على شبكة الإنترنت بعنوان "رسالة إلى أمريكا" في 20 آب/ أغسطس يظهر ذبح الصحفي الأمريكي جيمس فولي، الذي فقد في سوريا في عام 2012، وقال التنظيم إن قتل فولي كان انتقاما من الغارات الجوية الأمريكية على مقاتلي الدولة الإسلامية في العراق. 

لا شك بأن سلوك تنظيم الدولة كان صادما، على الرغم من معرفة الجميع بتكتيكاته المرعبة، فقد وصف الرئيس الأمريكي باراك أوباما حادث الإعدام بالصادم والمؤسف، مؤكدا على ضرورة القضاء على التنظيم، أما وزير الدفاع الأميركي، تشاك هيغل فقال في مؤتمر صحفي برفقة رئيس هيئة الأركان مارتن ديمبسي: إن تنظيم الدولة الإسلامية يمثل خطراً أشد من تنظيم القاعدة، وأكد بأن هزيمة التنظيم لن تحدث فقط عبر الضربات الجوية، وأضاف بأننا نعمل على إقامة شراكات في الشرق الأوسط ضد التنظيم، وخلص إلى القول: نعمل على رسم استراتيجية طويلة المدى لمواجهة تنظيم الدولة، وأشار إلى أن التنظيم أكثر تدريبا وتمويلا من أي تنظيم آخر على الإطلاق، إضافة إلى أنه يملك تكتيكات واستراتيجية عسكرية.

لكن السؤال الجوهري الأهم، هل تملك الولايات المتحدة استراتيجية فعلا للقضاء على تنظيم الدولة الإسلامية، وما هي خطوطها وأدواتها، لا شك بأنه السؤال الأكثر تداولا اليوم أمريكيا، ويبدو أن الإجابة بالنسبة للخبراء معروفة ولا زالت تستند إلى مزيد من الضربات جوية، والمساعدات عسكرية للحلفاء المحليين على الأرض، وإلمباشرة بإصلاح العملية السياسية، يستدعي السؤال سؤالا آخر يتعلق بتعريفمن هم الحلفاء في المنطقة الذين يستحقون الدعم بما يحقق المصالح الأمريكية الاستراتيجية، ويساهمون بتحقيق هزيمة تنظيم الدولة دون أن تترجم الاستراتيجية الجديدة بتعزيز وتقوية نفوذ الحليف الجديد في المنطقة إذا كان حليفا إقليميا كإيرن أو السعودية، أو محليا كالأكراد والشيعة في العراق، فالولايات المتحدة لديها حاليا غرفتان للعمليات والقيادة في بغداد واربيل لتنسيق الموقف العسكري ضد تنظيم الدولة، وهل يمكن بناء تحالف إقليمي يجمع الفرقاء كما يقترح رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون.

أحد المسائل الأساسية المحيرة التي تشغل الخبراء والمحللين، في بناء استراتيجية متكاملة تتمحور حول سر جاذبية تنظيم الدولة الإسلامية واستقطابها للجهاديين العرب والأجانب، وكيف تفوق زعيم التنظيم أبو بكر البغدادي على زعيم القاعدة أيمن الظواهري، وكان التاريخ القريب قد شهد تفوقا نسيبا لمؤسس الشبكة الجهادية في العراق أبو مصعب الزرقاوي، على مؤسس تنظيم القاعدة أسامة بن لادن، ولماذا تفوق نهج الفرع العراقي المحلي على نهج التنظيم المركزي العالمي، وتبدو الإجابة على هذه الأسئلة حاسمة في التعامل مع تنظيم الدولة، إذ تستند الجاذبية بصورة أساسية على معيار النجاعة والنجاح، ففي الوقت الذي أصر التنظيم المركزي على المضي قدما في مناكفة العدو البعيد عبر تكتيكات حروب النكاية، ونهج الاستنزاف والمطاولة، كان الفرع العراقي المتمرد يصر على قتال العدو القريب عبر استراتيجيات التمكين، ونهج التطهير والمنازلة، فقد شدد التنظيم المركزي على كونه طليعة مقاتلة تحمل رسالة للأمة الإسلامية، تناهض الهيمنة الغربية لدفعه إلى الخروج من المنطقة، وأصر على خوض حرب أنصار تستند إلى أسس سياسية مصلحية، أما الفرع العراقي فقد أكد على كونه طليعة محاربة ممثلة للأمة الإسلامية، تقاتل الأنظمة باعتبارها "مرتدة" ومرتبطة بالغرب، وتسعى لحرمانها وحلفائها من الاستقرار والسيطرة، وتشدد على خوض حروب هوية تستند إلى أسس دينية وجودية، وبهذا تمكن الفرع العراقي من التفوق مرة أخرى على القيادة المركزية للقاعدة، عندما نجح في استثمار الصدع الهوياتي الطائفي، وتمكن من فرض نفسه كدرع واق للهوية الإسلامية السنية الممتهنة في العراق، وعمل على تأكيدها في سوريا ولبنان، دون الالتفات إلى سياسة النصرة التقليدية، بل فرض السيطرة والتطهير المكاني وإخضاع الخصوم واستلام زمام الحكامة كسلطة متغلبة في مناخ من الفوضى والتوحش. 

تعقيدات بناء استراتيجية جديدة للقضاء على تنظيم الدولة تستند إلى فشل الاستراتيجيات السابقة، وحالة التنظيم المزدهرة، فما تعاملت معه الإدارة الأمريكية في الماضي كان متواضعا مع ما عليه الآن، فبحلول عام 2006، كان الوضع الأمني في العراق قد تدهور مع تصاعد هجمات القاعدة، الأمر الذي بحثت فيه الولايات المتحدة عن خيارات صعبة، وظهر الجنرال ديفيد بترايوس كمنقذ، إذ قدم استراتيجية جديدة في "مكافحة التمرد"، تستند إلى استراتيجية تدفق القوات، وذلك من خلال ضخ أكثر من 30 ألف من الجنود الأمريكيين لإعادة الانتشار ومنع مزيد من الانهيارات، ليصل عدد القوات الأمريكية إلى 160 ألف من الجنود، وذلك بالتزامن مع دعم الحركات والفصائل والقوى السنيّة المستعدة لقتال تنظيم دولة العراق الإسلامية، وهي الظاهرة التي أطلق عليها "الصحوات".

وعلى الرغم من أن تاريخ 10 كانون ثاني/ يناير 2007 هو التاريخ الذي صرح به الرئيس بوش عن خطته لإرسال قوات إضافية بمقدار 20 ألف من الجنود، بداية لاستراتيجية "التدفق" بزيادة عدد القوات، إلا أن الزيادة بدأت بشكل غير رسمي في كانون أول/ ديسمبر 2006، وذلك عندما أصدر الجيش الأمريكي "الدليل الميداني لمكافحة التمرد 3 ـــ 24".، والذي وضع فيه بترايوس وآخرين تفاصيل الزيادة القادمة، وهي طريقة فهم جديدة تنطلق من الاعتقاد  بأن نشر أعداد كبيرة من القوات في المنطقة ستحقق النصر بطريقة أو بأخرى.

إذ تتطلب استراتيجية مكافحة التمرد مرونة وحركة واستخبارات وعدوانية، وقد اعتمدت الخطة رسميا عام 2007، وبحسب ستيف دوبرانسكي فشلت الخطة على المدى الطويل بالرغم من الاحتفاء بها اعلاميا داخل الولايات المتحدة لأغراض سياسية، إذ لم تستسلم الغالبية العظمى من المتمردين أو تغادر العراق وقطعاً لم يتم التخلص منها، مع أن بعضهم قتل أو أسر، ووافق البعض الآخر على الاستسلام تحت وعود من التوصل إلى حل سلمي لمظالمهم، وهناك عدد من المقاتلين مثل مجالس الصحوة وأبناء العراق من محافظة الأنبار وقد دفعوا المسلحين للتوقف عن مهاجمة القوات الأمريكية والقيام بالواجبات الأمنية المحلية الأساسية. وتشغل هذه المجموعات الأموال والوظائف، ولكن لا يمكن الاعتماد عليها تماماً، ففي نهاية المطاف تمت ملاحقتها من قبل الحكومة المركزية التي يقودها الشيعة وأجبرتها على الانضمام إلى القوات المسلحة النظامية بقيادة الشيعة

تستهدف مكافحة التمرد المستوى " الرفيع جدا" للعلاقات الاجتماعية، فهي تمزق تمزيقاً بالغاً العلاقات الاجتماعية الحميمة بين الناس (لكن نادراً ما تعيد صناعتها)، وتدمر قدرتهم على التعاون، كما تمزق نسيج التضامن والتعايش ـــ بمعنى آخر، تمزق الروابط التي تشكل مجتمعاً، إذ تسعى الحرب التقليدية للسيطرة على الأرض وتدمير جيش العدو، بينما وتسعى مكافحة التمرد إلى السيطرة على المجتمع.
خلاصة الأمر أن تنظيم الدولة الإسلامية بات يشكل تحديا حقيقيا لمصالح الولايات المتحدة وحلفائها في الغرب والمنطقة، وأن مكافحة الإرهاب وحماية الاقليات ذرائع إمبريالية وسياسات إخضاعية للتحكم والسيطرة، فالرطانات البلاغية الأخلاقية تستخدم للتعمية على المصالح القومية الحيوية، فالولايات المتحدة تتحرك في المنطقة على أساس ضمان مصالحها الحيوية ممثلة بالنفط وحماية أمن وتفوق المستعمرة الاستيطانية إسرائيل، ولم تحفل بثورات الربيع العربي ومبادئه المؤسسة على الحرية والعدالة والكرامة والديمقراطية، بل كانت الركن الأساس في الثورة المضادة وعملت مع حلفائها في المنطقة على وأدها والتخلص منها، وليس تنظيم "داعش" ــ وهي التسمية المفضلة لقوى الثورة المضادة ــ من أجهض الربيع العربي، فقد عمل على كسرها تحالف الاستبداد والفساد المحلي والإفليمي بإسناد ورعاية أمريكية، فداعش كانت بيدقا بالنسبة لقوى الثورة المضادة، لكن تنظيم الدولة الإسلامية فضح اللعبة، وكانت له طموحات مختلفة واستراتيجية محكمة، أما الولايات المتحدة فهي اليوم لا تتوافر على استراتيجية واضحة، ولا يقين بحليف، وهي مرتبكة وحائرة كحلفائها.