بطلعته الجوية، إلى موسكو، للمرة الثانية، ذكرني ببلدياتنا في النكتة الشهيرة!.
تقول النكتة أن واحداً بلدياتنا، وجد القوم في المملكة العربية السعودية في بحث عن هلال رمضان، فما كان منه إلا أنه أخذ منهم جهاز الميكروسكوب، ونظر به إلى السماء فرأي الهلال، فلما تأكدوا من صدق الرؤية، صفقوا له، ومنحوه جائزة، قام علي أثرها بأخذ مكبر الرؤية ثانية ووضعه علي عينيه وألتفت إلى الناحية الأخرى وأشار بيده: .. "وهذا هلال آخر"!.
عبد الفتاح
السيسي وعندما كانت الوظيفة الرسمية التي يشغلها هي وزير الدفاع بجمهورية
مصر العربية، سافر إلى موسكو وسط زفة عظيمة من أتباعه، الذين سوقوا الزيارة بأن مصر تقدم على خطوة جديدة تعود بها إلى زمن عبد الناصر، وأنها تتحلل من الوصاية الأمريكية، وتعمل على تنوع السلاح، بشكل يمثل تحدياً عظيماً للنفوذ الأمريكي في القاهرة.
ولأن اليسار المصري لديه رغبة عارمة في الفرح ويبحث عن مبرر، ولأنه أيد السيسي ويبحث عن حيثيات لهذا التأييد، فقد أقام له بهذه الزيارة "فرح العمدة"، فها هي مصر تخرج من إطار التبعية للولايات المتحدة الأمريكية. وكتب أحدهم عن لقاء "القيصر والجنرال"..
وقد جرى تحميل الزيارة أكثر مما تحتمل، فلا بوتين هو خوروشوف، ولا موسكو هي الاتحاد السوفيتي، ولا عبد الفتاح السيسي هو جمال عبد الناصر، لكن بدا الجميع سكارى وما هم بسكارى، فلا يمكن أن يدركوا هذه البديهيات!.
لقد منح بوتين السيسي معطفاً في شكل "الزعبوط"، ولم يعرف أحد دلالة ذلك، أو ما يمثله هذا "الزعبوط" لبوتين، كأن يكون فيه من "رائحة الحبايب"، وأن والد بوتين كان يعتز به، فلم يجد أغلي عنده من السيسي يمنحه له. في لحظات السكر البين لأنصار السيسي، تم التعامل مع المعطف على أنه من مستلزمات حفلات "التعميد" الروسي، وأن من يرتديه يكون قد حلت عليه "البركة".
عندما كنا نتعامل مع هذه الزيارة علي أنها كاشفة عن أن الحاكم الحقيقي لمصر هو السيسي وليس "الرجل البركة" عدلي منصور، فما الذي يجعل وزيراً يسافر لموسكو ليعقد اجتماعاً مع بوتين، في حين أن "الرئيس المؤقت" علي قيد الحياة؟.. كان الرد: لقد سافر الوزير بحكم موقعه لأن الهدف من الزيارة هو توقيع عقود صفقة سلاح، و" منصور" لا يعرف الفرق بين طلقات المدفع وطلقات الخرطوش، وقد يخدعه بوتين بصفقة سلاح فاسدة، استغلالاً لعدم خبرته في هذا "المجال الحيوي"!.
صفقة السلاح، قيل أنها "عربون محبة"، وقال البعض "بل علامة تحرر"، وقيل إن السعودية هي من ستمولها. ودار جدل واسع حول أهمية هذه الصفقة عسكرياً، فبينما قال البعض أنه سلاح متميز، ذكر آخرون أنه سلاح متواضع من النوع الذي يصلح لـ " خناقات الشوارع".
وبعد أن حققت الزيارة الهدف منها، كدعاية للمرشح الرئاسي عبد الفتاح السيسي، سئل المذكور من قبل "لميس الحديدي" في برنامج تلفزيوني في سياق حملة الدعاية عن صفقة السلاح؟!.. فأجاب: صفقة سلاح؟.. سلاح إيه؟!. وكاد أن يقول ساخراً: "خلي السلاح صاحي".
الذين صفقوا للسيسي بحسن نية شعروا بخيبة أمل، وزاد وغطي أن الرجل تحدث بعد ذلك عن أن علاقته بالولايات المتحدة قديمة، وأن واشنطن كانت "في الصورة" وهو يفكر في
الانقلاب علي الرئيس الشرعي، وكيف أنه اتصل بالأمريكيين في مارس 2011، أي قبل الانقلاب بشهور ثلاثة، لكي يقول لهم: " كفاية". فلا بد من الإطاحة بمرسي، وهو اعتراف يشكل جريمة خيانة عظمي، عندما يتصل وزير الدفاع بدولة أجنبية متآمراً علي رئيسه الشرعي الذي عينه وزيراً بقرار منه.
لقد تم الإسراف في التأكيد علي عمق العلاقات التي تربط " مصر الانقلاب" بالولايات المتحدة الأمريكية، وهي تصريحات لقادة السلطة الانقلابية في مصر، ولم نكن بحاجة إلى الحرب علي غزة لنعرف أين يقف عبد الفتاح السيسي بالضبط، الذي قال مسؤولون إسرائيليون إنه ضمن الحلف الإسرائيلي في المنطقة.
والحال كذلك، فقد بدا مدهشاً أن يقوم السيسي بزيارة لموسكو الآن، مع ترديد النغمة القديمة، عن "الزعيم الكبير" الذي تقرر التخلص من الهيمنة الأمريكية، ووضع حد لهذه التبعية الغربية، بالانعطاف شرقاً.
ولعل السؤال الذي يطرح نفسه الآن ما هو السبب في هذه الزيارة الجديدة، لاسيما وأنها جاءت بعد زيارة السيسي للسعودية؟ّ!.
إن السيسي مأزوم في الداخل، لذا فقد بني كل أماله علي المساعدات الخليجية، ويبدو أنها "عزيزة"، فلا توجد دولة لديها حالة من السفه تمكنها من الإنفاق على مصر بكل مشاكلها وهي بلد تعداد سكانها تجاوز المائة مليون نسمة. صحيح أن الانقلاب خيار لدول الخليج التي كان يمني السيسي النفس في أن تستمر في دعمه للأبد لكن علينا أن نعلم أن هذه الدول لم يكن السيسي قدرها وكان يمكن أن يتم "تدوير الانقلاب" بأن يستمر المذكور وزيراً للدفاع ويتم الدفع بآخر أقرب إليها " سامي عنان، أو أحمد شفيق" ممن لم يشاركوا في المذابح، ووجود السيسي في المشهد يزيد من حدة التوتر علي نحو لا يمكن معه أن تعتمد مصر علي نفسها.
لقد قام السيسي بخسارة الظهير الشعبي له، بالرفع الجزئي لدعم الوقود، كما أنه فشل في كل الملفات، ولم يكن أمامه سوى الهروب للأمام بطلعة أرضية تتمثل في مشروع حفر قناة جديدة موازية لقناة السويس، تقول الدعاية غير القائمة علي أسس علمية أنها كفيلة بحل كل مشكلات مصر في "ظرف عام". وطلعة جوية تمثلت في زيارته لموسكو، ليتم الحديث مرة أخرى عن عبد الناصر الجديد، الذي قرر أن يتخلص من التبعية للغرب، كسباً لتأييد شعبي. وله في ذلك مآرب أخرى.
السيسي المفتقد للتأييد الشعبي الآن، والمؤمن مثل غيره من مخلفات عهد مبارك، بأن المتغطي بالأمريكان عريان، يبحث عن حماية تبقيه في موقعه إن قرر الشعب المصري إسقاطه، ولسبب أو لآخر قررت الولايات المتحدة الأمريكية بيعه.. فكانت طلعته الجوية لروسيا.
لقد كانت زيارته الأولى لموسكو بعد أن بدا أن بوتين هو الحامي الحقيقي لبشار الأسد، فاته أن ترك الأسد في موقعه هو لأنه أمريكا وإسرائيل ليستا لديهما النية للتغيير، لأنه ثبت لهما أن الاحتكام للإرادة الشعبية في المنطقة من شأنه أن يأتي بحكام أكثر عداء.
ولا استبعد أن هناك دلالة خاصة، من أن تكون زيارة موسكو بعد لقاء العاهل السعودي، هي جزء من مناورة سعودية، مع الأمريكان، رداً علي تقاربهم الذي بدا مفاجئاً مع طهران. وإذا كان هذا صحيحاً فانه يكون استخداماً للحلقة الأضعف فليس في إمكان رئيس سلطة الانقلاب في مصر أن يتحمل مجرد نظرة بعين الغضب من قبل أولياء الأمر في واشنطن. وقد تصدر له الأوامر قريباً: "رد عليه زعبوطه"!.
إن الطلعات الجوية أو الأرضية هي كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف، فالسيسي لم يعد هو الرجل القادر علي أن يبيع الهواء للشعب المصري.