إنها حرب من نوع آخر، أسلحتها التعبير الرمزي المصوّر، وجيشها خبراء ورسّامون وناشطون في الشبكات. تتفاعل هذه الحرب أسبوعاً بعد أسبوع وتتزايد ضراوةً وتأجّجاً، وتتجنّد لها أذرع الترويج الممتدّة حول العالم.
فلم يستغرق
عدوان 2012 على
غزة سوى أيّام ثمانية، لكنّه جاء معبِّراً بقوّة عن هذا الاتجاه الترميزي، من خلال محاولة وصف الوقائع والمجريات أو تفسيرها بما يتماشى مع الجهود الدعائيّة والإعلاميّة لأطراف الصراع أو مؤيِّديها من الجانبين.
فقد اختار جيش الاحتلال يومها تغريدة عبر "تويتر" إعلاناً عن انطلاق عدوانه السابق على غزة، في خريف 2012، فروّج مع صيحته الحربية تلك تصميماً لصورة القائد العسكري الفلسطيني أحمد الجعبري على طريقة "المطلوبين"، مع كلمة "صُفِّي" بالإنجليزية، بما أشعل معركة الترميز المصوّر في ظلال العدوان.
لقد سعت دعاية الاحتلال وقتها إلى اعتماد أسلوب التعبير الرمزيّ الذي يجسِّد ذرائع حربها على غزة، كما ورد مثلاً في تصميم يحمل العبارة: "حرب حماس ضد إسرائيل" بالإنجليزية. وظهر في الرسم صاروخ ضخم وهو يهمّ بالسقوط على أسرة، وذلك باستخدام أسلوب "بكتوغرام" الرسومي الذي تستعمله المرافق العامّة في لافتاتها النمطية التوضيحية. وفي ملصق آخر أصدره جيش الاحتلال، تظهر أسرة إسرائيليّة في دائرة الاستهداف مع النصّ التوضيحي: "المدنيوّن الإسرائيليون أهدافٌ لحماس".
إ
نها البواكير كما تجلّت في جولة 2012. وقد تصدّت لها يومها جهود عدّة، منها مثلاً رسمٌ داعمٌ للموقف الفلسطينيّ، صدر في اليوم الأوّل من ذلك العدوان، يُظهِر دبّابة إسرائيلية في مواجهة عربة أطفال، مع كلمة "غـزة" أسفل الرسم.
وما تجدر ملاحظته؛ أنّ رسوم الترميز التي تروِّجها الدعاية الإسرائيلية تُمعن في "أنسنة" الاحتلال مع نزع الصفة الإنسانيّة عن الشعب الفلسطيني ومقاومته. إذ يتمّ التعبير عن الجانب الفلسطيني بقذيفة أو صاروخ أو إشارة تهديد. وفي المقابل؛ تنهض رسوم الترميز الداعمة للموقف الفلسطيني بدور معاكس؛ إذ تقدِّم الشعب الفلسطيني ضمن واقعه الإنساني، مع تنميط آلة الحرب الإسرائيلية التي تأتي في هيئة دبّابة تصوِّب مدفعها صوب طفل رضيع مثلاً.
وتزداد التعبيرات الرمزية المصوّرة حضوراً في سياق منعطفات الصراع التي تمرّ بها القضية الفلسطينية. فهي تمثِّل مادة للتحرّكات الجماهيريّة واللافتات المرفوعة والقمصان الدعائيّة ومواقع الإنترنت والشبكات الاجتماعيّة؛ علاوة على تمريرها في نطاقات واسعة عبر مراسلات البريد الإلكتروني. وما يزيد من أهمية هذه التعبيرات الرمزية بالنسبة للجانب الفلسطيني؛ أنّ فصول العدوان التي يفترفها الاحتلال الإسرائيلي تحفل بالصور الصادمة التي يصعب إبرازها لأسباب نفسية ومهنية، فيكون الترميز خياراً معقولاً للتعبير الضمنيّ عن الفكرة والواقعة؛ وربما بتأثير إيحائي أوْقع.
أمّا الجولة الحالية (2014) فتشهد عبر أسابيعها المتلاحقة تطوّراً في حرب الرموز المصوّرة. تقصف دعاية الاحتلال منذ يوم العدوان الأول الجماهير حول العالم بنماذج متتابعة من الرسوم، التي تعبِّر بإخلاص عن الرواية الإسرائيلية لما يجري، مع توظيف المؤثرات البصرية لخدمتها. وتتصدّى لذلك القصف؛ دفعات من الرسوم التي تفكِّك الذرائع الدعائية الإسرائيلية وتسعى لفضح وقائع العدوان وتوضيح الحقائق.
يكتسب التدفّق الدعائي الإسرائيلي سمة مركزية، تمنح انطباعاً مباشراً بوجود غرفة حرب إعلامية تغذي الشبكات وأذرع الترويج بمنتجات الترميز المصوّر، وهي غرفة قائمة حقيقة. ومقابلها تنشط جهود فلسطينية منظّمة وأخرى متفرقة، مع إسهامات لامركزية هائلة تعمل في النطاق العالمي، تنبثق من صميم الواقفين في خندق الحقّ الفلسطيني على تنوّع لغاتهم وثقافاتهم.
ففي اليوم الأول لعدوان 2014 ظهرت في أوروبا سلسلة تصميمات رسومية ترمِّز الجولة الجديدة، وتبدو فيها طائرة حربية نمطية مُثقلة بالقذائف وتلاحق طفلة في غزة، أو طائرات تطارد أمّاً غزية مع أطفالها وسط أطلال مبانٍ مدمّرة.
ثمّ جاءت دفعات أخرى، قدّم بعضُها صور أطفال غزيِّين فرادى وعلى انطباعات وجوههم أثر القصف والترويع، مع عبارة "الصمت يقتل!". الجديد في هذه التجربة هي تحاشي المشاهد التقليدية الحافلة بالأشلاء والدماء، لصالح أنسنة الصورة وإبراز الوجوه. فالجمهور يتماثل مع وجوه البشر لا مع أشلائهم، ويستجيب لنداءات الاستغاثة الإنسانية عندما تصدر من الأحياء في المقام الأوّل، لكنّه يشيح بالأبصار بعيداً عن الصور الصادمة التي تصدّها الأنفس بمناورة نفسية غير ملحوظة شخّصها العلماء. وقد جاءت تصميمات "الصمت يقتل!" بإصدارات متنوِّعة خرجت بعشر لغات أو أكثر، لتستقرّ في التداول الشبكي حول العالم إلى الأبد.
ومن المساهمات الجديدة في حرب الرسوم المصوّرة، سلسلة تكشف للعالم حقيقة الحياة تحت القصف الإسرائيلي. تبدو في هذه السلسلة لوحات تنبيه مرورية مذيّلة بكلمة "غزة"، ويبرز في مثلث أحمر على طريقة العلامات المرورية صاروخٌ إسرائيلي يهوي على طفل يلعب الكرة، أو طائرة تلقي بقذائفها على طفل وطفلة يلهوان على أرجوحة، علاوة على قصف جويّ على سوق في تصميم ثالث. لقد جاءت هذه السلسلة بُعيْد جرائم الحرب التي اقترفها القصف الإسرائيلي في ملاعب الأطفال وسوق الشجاعية في أيّام عيد الفطر، وهو ما أكسبها أهمية زمنية في عرض الوقائع وفضح الانتهاكات دون إبطاء.
وإن كانت دعاية الترميز الإسرائيلية قد بدأت جولتها في مستهلّ العدوان الجاري (2014) بالتركيز على الصواربخ الفلسطينية؛ فإنّ التحدي الذي فرضته المقاومة بأنفاقها الهجومية جعلها تستدرك لتضع الأنفاق في مركز رسوم الدعاية تلك لاحقاً. وقد تعاقبت في هذا الصدد ملصقات إسرائيلية تبرِّر قصف المنشآت المدنيّة والمنازل ودور العبادة. تقدِّم هذه السلسلة التي تروِّجها دعاية الاحتلال وأذرعها حول العالم رسوماً مقطعية لمبانٍ مع أنفاق أسفلها تضمّ مقاتلين أو مطلقي صواريخ. ويظهر في أحد الرسوم مسجد وتحته شبكة أنفاق، أو غرفة عمليات في مشفى مع نافذة ينطلق منها صاروخ. إنها رسالة التبرير الرمزية المصوّرة لجرائم الحرب الإسرائيلية، التي تبتغي تضليل الجمهور وكبح مشاعره إزاء الفظائع المتلاحقة.
هي حرب الترميز التي تقذف بمنتجاتها في فضاءات الشبكة التفاعلية، فتأخذ الأعمالُ المصوّرة سبيلها إلى الجماهير، لتتفشى في الشبكات وترتفع في لافتات التظاهر حول العالم. والفارق الجوهري بين جانبيْ الصراع على الوعي؛ أنّ الترميز المضادّ للعدوان يحاول شرح الواقع وتوضيح أبعاده والتركيز على جوهره، أمّا الترميز الدعائي الإسرائيلي فينشغل بإثارة الشكوك واختلاق القصص للتعمية على جرائم الحرب، مع نسج المبرِّرات للفظائع حتى قبل اقترافها.
(*) حسام شاكر، استشاري إعلامي، فيينا وبروكسيل