جسده الصغير لا يكاد يرى من فرط الضمادات والمحاليل الطبية التي تحيط به وهو راقد على سريره الأبيض في العناية المركزة بمشفى فلسطين بالقاهرة؛ هو بدر صيام، الطفل الفلسطيني ذو الأربعة أعوام، أحد ضحايا الحرب
الإسرائيلية على قطاع
غزة.
تقترب منه فيرمقك بنظرات فاحصة خائفة؛ لا يتحدث إلى أحد أبدا، ولا حتى الطبيب المشرف على علاجه، عدا جده عن أبيه الذى رافقه في رحلة علاجه بالقاهرة بعد استشهاد والدته وإخوته الأربع وبتر يد أبيه إثر تعرض منزلهم لقصف إسرائيلي.
مصباح صيام الجد المكلوم أحضر لحفيده لعبتين يلهو بهما عله ينسى آلآم الإصابة؛ الأولى طائرة يتخيل بدر نفسه وهو يقودها ليمنع الطائرات التي قصفت منزله وأسرته؛ أما الثانية فمسدس مائي يرى فيه الطفل وسيلة دفاع عن نفسه حينما يكبر ضد أي عدوان قد يسلبه ما تبقى له من أحبة.
بصوت حزين قال صيام: غادرت منزلي بغزة متجها إلى المسجد، وما هي إلا دقائق ورأيت الزنانة (الطائرة) تستهدفه بصاروخين، فهرولت إليه لأجد أسرتي عبارة عن أكوام من اللحم الممزق؛ حملت حفيدي وركضت به إلى الإسعاف حتى تم فتح معبر رفح، وتمكنت من نقله عبر الإسعاف
المصري لتلقي العلاج المناسب.
أما إصابة بدر فكانت استئصال نصف المعدة والكلى اليسرى؛ وتجمعات دموية على الرئة اليمنى؛ وثقوب بالأمعاء؛ وسلخ جلد قدمه اليمنى، حسب الأطباء المعالجين.
حالة أخرى غلب عليها التفاؤل والأمل رغم ما ألم بها للشاب الفلسطيني أنس يازجي ذو العشرين ربيعا، الطالب بكلية الهندسة، حيث تميزه ابتسامة التي لا تفارق شفتاه، ولا تتماشى منطقيا مع قدمه اليسرى المبتورة والشرائح البلاتينية المركبة بيده اليسرى؛ والكسر الذى ألم بساقه اليمنى فضلا عن الحروق التي شوهت وجهه وجسده.
أنس يرفض أن يزوره أحد باكيا على حالته الصحية الحرجة؛ ويقابل زواره مداعبا "هل تكرهون أن يسبقني أحد أعضائي إلى الجنة؟ ساقي المبتورة سبقتني إلى هناك؛ ووجهي المحروق بدأ يتعافى ويستعيد إشراقته؛ فابتسموا كما ابتسم".
وروى يازجي كيف استهدفت الطائرات الإسرائيلية المنازل المجاورة لمنزله فأسرع بإخلاء المنزل من أبيه وأمه، لكنه عاد لأخذ بعض الأغراض فباغته صاروخ فأسقطه جريحا.
ومضى قائلا: "لم أفقد الوعي رغم النزيف، حتى حضرت سيارة الإسعاف، وقام المسعف بتخديري؛ وآخر مشهد وقعت عليه عيناي هو تكدس أهالي حي الشجاعية في الشوارع المحيطة بمستشفى الشفاء بحثا منهم عن أي رقعة أمان في أرضهم المنكوبة؛ خاصة بعدما استهدفت الغارات مدارس الأونروا".
يتواصل يازجي مع أهله الذين نزحوا لمنزل أحد أقاربهم كلما عادت شبكات الهواتف النقالة للعمل بقطاع غزة؛ ويقول إنهم أطلعوه على أن القطاع غارق في الظلام بعد انقطاع التيار الكهربائي حتى عن الأبراج التي تعمل بالمولدات نتيجة نفاد المحروقات؛ كما أن المياه لم تعد تصل للسكان.
الشاب الفلسطيني الجريح قال إن أكثر ما يسعده هو احتفاء المصريين بأهل غزة والوفود الشعبية التضامنية التي لا تنقطع عن المشفى للاطمنان عليهم وتلبية أي شيء يعوزهم.
في الغرفة المجاورة كان يرقد الشاب الفلسطيني أيمن مصري (28 عاما)، وهو عامل بقطاع غزة، أصيب خلال الحرب الأخيرة على القطاع، وقد بدأ يتماثل للشفاء من إصابته بكسر في مفصل اليد اليمنى وكسر الفخذ الأيمن وكسر اليد اليسرى ما استلزم تركيب شرائح بلاتينية؛ فضلا عن كسور بلوح الكتف الأيمن ومفصل اليد اليمنى؛ وأصبح على وشك مغادرة المشفى عائدا لقطاع غزة.
واسترجع مصري ذكريات استهداف منزله في بيت لاهيا، شمال قطاع غزة، في ثالث أيام الحرب؛ حيث كانت صغيرته جنى، عام ونصف، تلهو على بعد أمتار عنه وحينما بدأ القصف ركض إليها واحتضنها فكانت إصابته، بينما منيت الصغيرة بجرح قطعي في اللسان وكسر بالقدم.
محمد حسان (25 عاما)، فلسطيني آخر يعالج بمشفى فلسطين، ويعاني من بتر بأصابع القدم اليسرى وشظايا بالأذن، ما أثر على حاسة السمع؛ وذلك بعدما كان يستقل دراجة بخارية إلى منزله مع صديقيه فاستهدفتهم طائرة إسرائيلية بشارع صلاح الدين لتردي أحد صديقيه شهيدا، بينما أصيب هو وصديقه الآخر.
وقال حسان: "مضيت قرابة نصف الساعة أنزف في الشارع، وشاهدت بأم عيني سيارة إسعاف كلما حاولت القرب مني لاحقتها الطائرة الإسرائيلية التي كانت تحوم في السماء فكانت تتراجع عن إسعافي؛ وظل الوضع هكذا حتى ذهبت الطائرة الإسرائيلية لهدف آخر".
وتابع: "بعدها نقلت إلى أحد مشافي غزة، فطلب مني الطبيب تحمل الألم لنفاد المسكنات وكانت الأوضاع مأساوية للغاية؛ ولكن الله أراد بي لطفا حينما تم نقلي في نفس اليوم للعلاج بالقاهرة".
على السرير المجاور يرقد محمد سمير (27 عاما)، وهو عسكري بسلطة رام الله؛ والذى يتولى رعاية نفسه ابتداء من تعليق المحاليل حتى تطهير الجرح وحينما يسأله الممرض عن السبب يرد ضاحكا "تعودنا ".
سمير روى كيف سقط في الشارع الذى به منزله مصابا عقب استهداف الشارع بصواريخ إسرائيلية، فبترت ساقه اليمنى فورا أمام ناظريه ولم يعد يربطها بباقي جسده سوى قطعة من الجلد.
هرولت أسرته إلى الشارع للاطمئنان عليه بعد انتهاء القصف ونقلوه للمشفى الأوروبي، حيث لم يتمكنوا من التعامل مع حالته الحرجة بسبب تردي أوضاع القطاع الطبي بغزة خاصة بعد إصابته بشظايا في الظهر وتهتك في عضلات القدم الأخرى؛ ما استوجب نقله لمستشفى العريش (شمال شرقي مصر)، حيث كانت الرعايا الطبية "سيئة للغاية"، وفق سمير، ثم نقل إلى مستشفى فلسطين حيث بدأ يشعر بتحسن حقيقي في حالته.
أما العناية المركزة بالمشفى فقد استقبلت 20 حالة حرجة استشهد منها ست حالات نتيجة إصاباتهم البالغة في البطن والدماغ؛ بينما كانت تعاني غالبية الحالات المتبقية من كسور وبتر في الأطرف؛ أما القاسم المشترك بين كل
الجرحى فهو أنهم جميعا من الشباب؛ بحسب شهيرة نور الله، كبيرة الممرضات بالعناية المركزة.
من جانبه، قال الطبيب بقسم العناية الفائقة الدكتور حمدي محمد القاسم، إن العناية لازالت تضم 5 حالات حرجة من بينهم الطفل بدر صيام؛ أما باقي الحالات فهي كالآتي:
- إبراهيم عدلي (20 عاما)، يعاني من انقطاع بالشريان الذي يصل الدم بالمخ، ما أدى لإصابة نصف المخ بجلطة وشلل في النصف الأيمن من جسده؛ فضلا عن كسر بالفك؛ ونجح الأطباء في إنعاش قلبه بالصدمات الكهربائية بعدما توقف عن العمل لنصف الساعة.
- محمد ماهر (16 عاما) متوفي إكلينيكيا نتيجة إصابة المخ بطلقة أدت إلى نزيف وارتشاح وموت بجذع المخ.
- ناصر عبدالرحمن (46 عاما) تم استئصال الطحال وعلاج تهتك بالقاولون وإزالة فص من الرئة اليسرى لعلاج الارتشاح الصديدي الذى أصابه.
- محمد سالم (19 عاما) ويعاني من انسداد بالأمعاء وتجمع خلف غشاء البطن؛ وبتر الساق اليمنى وكسر بالساق اليسرى وأصابع اليد اليسرى؛ وعدوى تسممية حادة ما استوجب عزله عن باقي المرضى.
وقال الدكتور عاطف مرقص، استشاري الجراحة، "هناك إصابات بحروق من الدرجة الثانية والثالثة وحالات حرجة، لكن تحديد نوعية الأسلحة التي تسببت في هذه الإصابات يتطلب متخصص في الأسلحة"، الأمر الذي يثير استخدام إسرائيل أسلحة محرمة دولية من خلال النظر إلى الإصابات.
وأضاف مرقص أن المشفى استقبل 14 حالة احتاجت نصفها لترقيع جلد بسبب انصهار جلودهم جراء الإصابة؛ وتركزت الإصابات حول بتر الأطراف خصوصا السفلية أو إصابات خطيرة بالمعدة نتيجة انفجارات أو سقوط أبنية على رؤوس قاطنيها بعد استهدافها بغارات.
أما مساعد المدير الإداري بالمشفى، شوكت علي، فأكد أن علاج هذه الحالات تكلف 250 ألف جنيه (نحو 35 الف دولار) تحملها الهلال الأحمر الفلسطيني؛ لذلك يفتح المستشفى أبوابه لتلقي التبرعات المادية والعينية خاصة الكراسي المتحركة بموتور، والتي تساعد من فقدوا أطرافهم على الحركة.
وأضاف: "مشفى فلسطين فرع من جمعية الهلال الأحمر الفلسطينية التي أسسها الدكتور فتحي عرفات، شقيق الرئيس الراحل ياسر عرفات، لتقديم خدمات طبية واجتماعية للفلسطينيين في كل مكان خارج وطنهم الأم".
وقامت مصر بفتح معبر رفح لغايات إنسانية بعد ضغوط دولية ومطالبة أمين عام الأمم المتحدة بان كي مون مصر بفتح المعبر لدخول الجرحى الفلسطينيين.