كتب فهمي هويدي: يوم الجمعة الماضي (الأول من أغسطس) أعلنت تل أبيب أن مقاتلين من حركة
حماس اختطفوا ضابطا إسرائيليا خلال عملية عسكرية شرق رفح جنوب قطاع غزة، وأن ذلك حدث في بداية فترة وقف إطلاق النار الذي اتفق عليه لمدة 72 ساعة. وفور إذاعة الخبر ردت
إسرائيل بغارات مكثفة على رفح، أوقعت مجزرة بالمدينة، وكان من بين الأهداف التي تعرضت للقصف مدرسة تابعة للأمم المتحدة تجمع بداخلها 300 شخص قتل منهم عشرة وأصيب 35 بإصابات مختلفة. ولم يقف الأمر عند الانتقام الذي تولته طائرات إف 16، لأن إسرائيل سارعت إلى إبلاغ الأمم المتحدة وواشنطن ومصر بالقصة، ومن ثم توالت تصريحات الأمين العام للأمم المتحدة ووزير الخارجية الأمريكي داعية إلى ضرورة إطلاق سراح الضابط على وجه السرعة ودون أي شروط.
طغى خبر الخطف على المذبحة التي قتل فيها نحو 120 شخصا. حيث بدا واضحا في واشنطن أن قصة الضابط المخطوف استأثرت بكل الاهتمام والتنديد. بل بدا أن هناك تفهما وتبريرا لقتل ذلك العدد الكبير من الفلسطينيين، لأن العملية لم تكن مقصورة على خطف الضابط الإسرائيلي فحسب، ولكن لأنها وقعت أثناء سريان وقف إطلاق النار وهو الخرق الذي حملت حركة حماس المسؤولية عنه.
بعدما أنهت الطائرات الإسرائيلية مذبحة رفح، أعلنت إسرائيل أن الضابط الذي ادعت اختطافه من جانب حماس، تم العثور على أشلاء تهمه في مكان قريب من العملية. الأمر الذي كان دليلا على أنه قتل ولم يختطف.
لم تكن هذه هي المفاجأة الوحيدة. لأنه تبين فيما بعد أن إسرائيل هي التي قتلته وأنها كانت تعلم ذلك، لكنها خدعت الجميع بحكاية اختطافه أثناء فترة وقف إطلاق النار، لكى تبرر المذبحة التي نفذتها في رفح. هذه المعلومة كشفت عنها صحيفة «نيويورك تايمز» التي أعلنتها في خبر بثته على موقعها الإلكتروني يوم الأحد 3/ 8، ثم رفع بعد ذلك ولم يظهر له أثر.
خلاصة الخبر كما أوردته الصحيفة الأمريكية أن الضابط الإسرائيلي أصيب في معركة مع عناصر كتائب القسام قبل سريان موعد وقف القتال. وانه تعرض للخطف فعلا، ولكن القوات الإسرائيلية أطلقت نيرانها على خاطفيه الذين حملوه إلى نفق كان يفترض أن يهربوا من خلاله. فقتلتهم جميعا وتعمدت قتله معهم، حتى لا يتم اختطافه حيا. ونقلت الصحيفة عن مصدر عسكري هو الكولونيل لوند قوله أن هذا الذي لجأت إليه القوات الإسرائيلية يعد تطبيقا لما سمى بعملية «هانيبال» التي بمقتضاها يقطع الطريق على أى محاولة خطف عسكري إسرائىلي حيا من جانب «العدو»، حتى إذا اقتضى الأمر التضحية بحياة الإسرائيلي ذاته، إذ المهم ألا يبقى بين أيديهم حيا.
ليست هذه الكذبة أو الخدعة الوحيدة التي أطلقتها إسرائيل لكى تغطى بها ممارساتها الوحشية وتبرر جرائمها بحق الفلسطينيين. ذلك أن سجل الدول العبرية حافل بمثل هذه النماذج. والحرب التي نحن بصددها بدأت بكذبة أو خدعة مماثلة. إذ ادعت إسرائيل أن حركة حماس خطفت ثلاثة من المستوطنين، الذين تم العثور عليهم مقتولين في وقت لاحق.. ورغم أن العملية تمت في الضفة الغربية، وكانت إسرائيل تعلم أن حماس لم تكن طرفا فيها كما ذكر التلفزيون الألماني، إلا أن إسرائيل سارعت إلى شن غاراتها على القطاع ابتداء من يوم 8 يوليو وشرعت في تدميره وإغراقه في بحر الدماء على النحو الذي يعرفه الجميع. مما يذكر في هذا الصدد أن قطاع غزة ذاته سرقت منه إسرائيل 200 كيلو متر مربع في عام 1949 من خلال خدعة انطلت على الجميع ولم يكتشف أمرها إلا بعد فوات الأوان. وقد كشف سر هذه الخديعة الدكتور سلمان أبوستة مؤسس هيئة أرض فلسطين في مقالة له نشرتها جريدة الحياة اللندنية في 16/ 3/ 2009. إذ ذكر أنه طبقا لاتفاق الهدنة فإن المساحة الحقيقية للقطاع هي 555 كيلو مترا مربعا. ولكن إسرائيل سرقت منه المائتي كيلومتر حتى أصبحت مساحته 362 كليومترا فقط، واستقر ذلك الوضع المستجد بمضي الوقت في الوثائق المتداولة وفي وسائل الإعلام. خلاصة الحيلة كانت كالتالي: إثر الاشتباكات التي حدثت بين القوات المصرية والإسرائيلية وبعدما استطاع الأخيرون محاصرة القوات المصرية في الفالوجة. عقدت اتفاقية للهدنة بين الطرفين في شهر فبراير عام 1949. وبمقتضاها تم تحديد خط الهدنة كما لو كان سورا يحيط بقطاع غزة. إلا أن الجانب الذي خضع للسيطرة الإسرائيلية كانت فيه بعض القرى العربية، التي ظل يتردد عليها سكانها الذين تواجدوا في الجانب المصري، وقد تسبب دخول هؤلاء وخروجهم في وقوع بعض الحوادث بسبب الألغام المتفرقة، لذلك اقترح الإسرائيليون أن تقام منطقة عازلة بين الطرفين بحدود مائتي كيلو متر اقتطعت من المساحة التي خصصت لقطاع غزة. ووقعت اتفاقية سرية بهذا المعنى بين الطرفين مثل الجانب المصري فيها «الصاغ» حينذاك محمود رياض.
ورغم النص على أن الخطوط الموضوعة مؤقتة وأنها لا تؤثر على اتفاقية الهدنة الرئيسة، إلا أن الإسرائيليين وضعوا أيديهم على المساحة المقتطعة وضموها في هدوء إلى حدود بلادهم. في حين خسر القطاع أكثر من نصف مساحته الحالية، ومسحت الخدعة الإسرائيلية خطوط الهدنة التي يفترض أن تكون المرجع الأصلي للحدود. ومن ثم تغلبت القوة على الحق وكتب بذلك فصل مهم في سجل الكذب والخداع، الذي ما برحت إسرائيل تضيف إليه فصلا جديدا كل حين.
(بوابة الشروق المصرية)