كتب أسعد عبد الرحمن: مركزين على المكاسب والخسائر «المباشرة» لدى كل من
المقاومة الفلسطينية وإسرائيل، ومؤجلين الحديث عن المكاسب والخسائر «غير المباشرة»، بل الاستراتيجية إلى مقال لاحق، نسجل أنه:
في الحروب لا يحدد الانتصار أو الهزيمة بعدد القتلى والجرحى فحسب. فهذا العدد هو، دوماً، مرتفع لدى حركات التحرر الوطني التي تواجه على الدوام قوى طاغية عاتية تستند إلى التكنولوجيا الأحدث. ومع ذلك، فمن المعروف أن الدولة الصهيونية تتأذى، في كثير من الأحيان، من ضربات المقاومة الفلسطينية أكثر مما تسمح به لنفسها. وبمقارنة الأرقام في المجابهات السابقة، فإنه في حرب عام 2014 الحالية، خسر الفلسطينيون، وكذلك
الإسرائيليون، أعداداً أكبر من القتلى والجرحى، علاوة على «الإصابات النفسية» الناجمة عن الهلع الفادح لاسيما في صفوف الأطفال والنساء على الجانب الفلسطيني.
وحتى تاريخه، خسرت إسرائيل في حربها على قطاع
غزة أكثر مما توقعت. فعلاوة على القتلى والجرحى (الذين بلغ عددهم، هذه المرة، مستويات غير مسبوقة)، فقد خسر الاقتصاد الإسرائيلي الكثير وفق ما قدره «صندوق النقد الدولي» في اليوم التاسع عشر للعدوان. وأوضح الصندوق أن «خسائر تل أبيب قد ترتفع إذا ما استمر العدوان لفترة طويلة، مع احتمال تباطؤ معدل النمو الاقتصادي وتكبد قطاعي السياحة والشركات الصغيرة والمتوسطة في جنوب إسرائيل أكبر الخسائر»، دون أن ننسى الخسائر المادية والمعنوية التي ترتبت عن إعلان عشرات شركات الطيران العالمية (الأميركية والأوروبية وغيرهما) تعليق رحلاتها إلى مطار اللد (بن جوريون).. ولو ليوم واحد أو ما يزيد قليلا. فهذه سابقة لم يكن لها شبيه من قبل. كما جاءت الحرب الإسرائيلية على القطاع في وقت الذروة للموسم السياحي الإسرائيلي، ما كبّد الإسرائيليين خسائر ليست بالبسيطة. فقد أعلنت شركة طيران «العال» أنها «تتوقع هبوطاً متزايداً في عائداتها خلال الربع الثالث من العام الحالي»، فيما شهدت أسعار تذاكر الطيران من وإلى إسرائيل ارتفاعاً كبيراً بسبب قلة الرحلات من وإلى تل أبيب، مما أصاب رجال الأعمال والسياح والمسافرين بخسائر مالية مباشرة. كذلك، خسرت إسرائيل إعلامياً حين ظهر وجه إعلامها القبيح كإعلام مجند وموجه لصالح كيان احتلالي غير ديمقراطي، طبعاً، رغم كتابات صحفية قليلة ناقضت الخط السياسي اليميني الدارج في إسرائيل اليوم!
محاولة حصر خسائر إسرائيل المباشرة، تحتاج إلى دراسات وليس مقالا أو اثنين. لكن من أبرز خسائر الدولة الصهيونية، وعلى لسان رجالاتها، «الخسائر العسكرية»، الفعلية والمعنوية، كما أشار المحلل السياسي «آمنون لورد» بقوله إن «قدرة حماس على استهداف قادة ألوية الصفوة الكبار في جيشنا بشكل دقيق يدلل على أن لدى هذه الحركة معلومات استخبارية دقيقة. وقد نصبت كتائب القسام كمائن لوحدات إسرائيلية مختارة في طريقها لتنفيذ عمليات خاصة في عمق القطاع يؤكد هذه المخاوف». ويضيف لورد: «نجاح حماس في استهداف ضباط كبار يمنحها القدرة على الادعاء بأن عمليات التسلل التي تقوم بها تهدف فقط لقتل ضباط كبار وليس لاستهداف المدنيين، كما تفعل إسرائيل». وهذا اعتراف صريح بأن العدوان يستهدف في المجمل المدنيين، وهو ما عبّر عن تبعاته العديد من المسؤولين على امتداد العالم وكذلك قادة الرأي العام. وهذه التبعات قد حدثت بالفعل، والدليل عليها هذه المقابلات والتصريحات والكتابات الكثيرة التي امتلأ بها الإعلام الغربي (وغير الغربي)، ناهيكم عن الانتصار «الإعلامي الجماهيري» الذي حققته المقاومة والذي أسقط قناع الوجه الإسرائيلي القبيح.
ومقابل خسائر الدولة الصهيونية تظهر مكاسب وإنجازات غير متوقعة للمقاومة. فرغم أنه، في كل مرة يتعرض فيها قطاع غزة لعدوان إسرائيلي، يعود الاتهام نفسه ويوجه إلى المقاومة الفلسطينية:
«مواجهة عدو محتل بالسلاح تفتح باب الجحيم على الفلسطينيين، لذا عليكم التوقف عن حروبهم العبثية»! ومثل هذا الاتهام يأتي بعيداً عن منطق الفداء والمقاومة ورفض الاحتلال، دون أن ننسى أن الانتصار بمعناه الحرفي في حالة غزة بعيد كل البعد عن معنى الانتصار كما خبره التاريخ. فالمقاوم الفلسطيني، بإمكاناته المتواضعة، ليس بقادر على محو العدو من الخريطة أو مجرد هزيمته، بمعنى أنه دائماً هو الضحية في المعادلة لكنه قادر على مراكمة إيذائه لعدوه المحتل. وتزخر الصحافة العبرية والغربية بشواهد القدرة الفلسطينية على الإيذاء. فمثلا، قال معلق الشؤون العسكرية «عمير رايبوروت» إن «مقاتلي حماس يخرجون من فوهات الأنفاق كأشباح يهاجمون مؤخرة الجيش ثم يختفون.. هم لا يختبئون، بل ينقضون في المعارك وينفذون عمليات انتحارية بكل ما تعني الكلمة». بل دعا الأديبُ الصهيوني «سامي ميخال» إلى التوقف عن الرهان على إمكانية تحقيق نصر على حركة «حماس»، مؤكداً أن «الحرب ستفضي إلى نتائج كارثية، يتحمل مسؤوليتها نتنياهو».
ومن مكاسب المقاومة في هذا العدوان، مسألة جديدة لكنها جد هامة، وهي قدرتها على فرض الشروط في مسألة وقف إطلاق النار. فإذا كان بإمكان الإسرائيليين بدء العدوان، فإنهم غير قادرين على التحكم بمجرياته ما يزيد من قدرة الردع عند المقاومة. وفي هذا السياق، يقول المحلل الإسرائيلي «اليكس فيشمان»، في مقال انتقد فيه «حماس» بشكل كبير: «إن حماس تتصرف كما لو كانت شخصاً انتحارياً يريد أن يجر إسرائيل لصراع مسلح. إن حماس ستكون الطرف الذي يحدد إلى أي مدى تستمر العمليات العسكرية».
إن من أبرز أهداف العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة كسر إرادة المقاومة لدى الشعب الفلسطيني، وإلغاء ما بات يشكله القطاع من قاعدة للصمود، فضلا عن محاولة ضرب الوحدة الوطنية الفلسطينية. لكن ما حصل شكّل إنجازاً بارزاً، حيث تتعززت الوحدة الوطنية الكفاحية، كما فشلت محاولات العدوان الإسرائيلي لإظهار غزة «دولة إسلامية إرهابية»، رغم الثمن الغالي حيث كانت الخسائر الفلسطينية على صعيد الدمار الأفدح (بشر/ أحياء/ منازل/ مدارس/ شوارع.. إلخ)، لكن الدولة الصهيونية تأذت كثيراً في هذه الجولة، وعلى أكثر من صعيد، بما يبعد المقاومة الفلسطينية من «الهزيمة المرة» ويقر بها من «الانتصار المر»!
(الاتحاد الإماراتية - 1 آب/ أغسطس 2014)