الموقف الفرنسي من
العدوان الإسرائيلي على
غزة لم يمر بسلام داخل تونس، فبعد أن استعادت باريس قدرا من بناء الثقة مع النخب الجديدة التي صعدت بعد الثورة بما في ذلك حركة النهضة، تجد نفسها اليوم في إشكال سياسي بسبب فلسطين.
تحسنت صورة
فرنسا قليلا على أيدي الحزب الاشتراكي الفرنسي الذي استلم الحكم بعد أن نجح في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية. ومن بين الجهود التي بذلها الاشتراكيون على إثر توليهم السلطة قيامهم بمراجعة سياستهم الخارجية تجاه الدول التي كانت فرنسا تدعم الأنظمة المستبدة بها، مثل الرئيس السابق زين العابدين بن علي الذي لقي دعما غير مشروط رغم انتهاكاته المعروفة والموثقة لحقوق الانسان. وقد استمر هذا الدعم إلى آخر لحظة في حكمه، حيث قررت وزيرة الدفاع يوم 14 يناير 2011 إرسال كمية هامة من قنابل الغاز المسيل للدموع لاستعمالها في تونس ضد المحتجين الذين كانوا ينزلون يوميا إلى الشوارع للتنديد بالسياسة القمعية للنظام.
ظنت الدبلوماسية الفرنسية أنه بإمكانها الفصل بين غزة وتونس، وعلى هذا الأساس عبرت عن تضامنها مع إسرائيل ضد الخطر الذي يهددها والذي يتمثل حسب اعتقادها في حركة حماس وبقية فصائل المقاومة. وهو نفس الموقف الذي عبرت عنه الإدارة الأمريكية. وفي المقابل تواصل باريس تأكيد حرصها على دعم الانتقال الديمقراطي في تونس.
رد فعل الشارع السياسي التونسي جاء مغايرا لحسابات الفرنسيين، فهذا الشارع لا يفصل بين المسألة الوطنية والمسألة القومية ممثلة في القضية الفلسطينية.
أدانت القوى السياسية ومنظمات المجتمع المدني وعموم النخبة في تونس الموقف الفرنسي، ورأت فيه انحيازا غير مبرر لعدوان وحشي على شعب مظلوم لم يجد من ينصفه. وللتعبير عن غضبها قاطعت نقابة الصحافيين حفل العيد الوطني الذي نظمته السفارة الفرنسية في تونس، وهو ما فعلته أيضاً عديد الأحزاب من بينها حزب المسار الذي تمخض تاريخيا عن الحزب الشيوعي، والذي رفض بدوره الاستجابة لدعوة السفارة. حتى الأحزاب التي شاركت في الحفل الرسمي، مثل حركة النهضة قامت بإبلاغ رأيها مباشرة الى السفير الفرنسي. فالحركة تجنبت توتير علاقاتها مع باريس، وذلك في ظرف تحرص فيه على بناء ثقة بينها وبين الدول الغربية وخاصة فرنسا التي حافظت على موقف عدائي للإسلاميين طيلة المرحلة السابقة. وحركة النهضة حريصة الآن على تشجيع باريس على مزيد الانفتاح والتعاون معها، وذلك بالنظر إلى أهمية العلاقات التونسية الفرنسية، إلى جانب التحول الذي شهدته الساحة المحلية بعد أن أصبح الإسلاميون لاعبا محوريا في إدارة الشأن العام في تونس.
كذلك الشأن بالنسبة لحزب التكتل من أجل العمل والحريات، الذي يقوده د مصطفى بن جعفر رئيس المجلس الوطني التأسيسي ، فقد انتقد بشدة الموقف الفرنسي رغم الصداقة القوية التي تربطه بالحزب الاشتراكي الفرنسي حيث ينتمي الحزبان إلى منظمة " الاشتراكية الدولية ".
الجهات الفرنسية الرسمية لم ترد الفعل على مقاطعة عيدها الوطني أو على الانتقادات التي صدرت من قبل مختلف الأوساط ضد انحيازها الكامل للعدوان الإسرائيلي. ويعود ذلك إلى أن الحزب الاشتراكي الفرنسي عرف منذ فترة طويلة بعلاقاته القوية بالدولة العبرية. إذ بالرغم من مواقفه التقدمية في عديد المجالات والملفات، إلا أن نظرته لطبيعة الصراع العربي الاسرائيلي بقيت متخلفة ولم تنضج بالشكل الذي يمكنها من التعامل بشكل موضوعي مع هذه المظلمة التاريخية، وذلك خلافا لليمين الفرنسي الذي كانت له سياسة انفتاح على العرب، وأبدى في الغالب تعاملا إيجابيا مع القضية الفلسطينية.
أما العامل الثاني الذي يفسر تجنب الدبلوماسية الفرنسية تصعيد الموقف، هو الحرص على توثيق الصلة بالقوى الفاعلة في تونس من أحزاب ومنظمات مجتمع مدني، خاصة في هذه المرحلة الصعبة التي تمر بها البلاد. ففرنسا لها مصالح كبرى في تونس باعتبارها الشريك الأول لها في المجال الاقتصادي. كما أن المحافظة على الاستقرار الأمني والسياسي لتونس يعتبر من بين الأولويات التي تأخذها بعين الاعتبار الاستراتيجية الفرنسية في منطقة المتوسط، وعلى هذا الأساس تتابع باريس بكثير من الاهتمام والقلق تصاعد العمليات المسلحة التي يقوم بها تيار السلفية الجهادية داخل تونس، وآخرها الهجوم الصاروخي بمنطقة جبال الشعانبي الذي خلف استشهاد 14 جنديا دفعة واحدة، وهو ما أحدث صدمة قوية لدى التونسيين، وكذلك في أوساط المتابعين للشأن التونسي.
الدبلوماسية الفرنسية مدعوة اليوم إلى البحث عن توازن في علاقاتها مع العالم العربي. فهذه المنطقة، إلى جانب أهميتها الاقتصادية والاستراتيجية، تمر في هذه الفترة بتحولات سياسية نوعية تفرض على مختلف العواصم الغربية مراجعة تعاملها مع الشعوب. صحيح هناك عوائق ومخاطر كبرى تهدد عديد الدول العربية، لكن هذه التحديات جزء لا يتجزأ من كلفة التحولات الجارية، إلى جانب تداعياتها المباشرة على أمن واستقرار الدول الغربية ذات المصالح الكبرى بالمنطقة. ولهذا سيكون من الصعب فصل القضية الفلسطينية عن المسألة الديمقراطية المطروحة بشدة في معظم الدول العربية. فالديمقراطية تخدم فلسطين، لأنها توفر فرصة للشعوب حتى تعبر عن قناعاتها وانحيازها الكامل للقضايا العادلة، وفي مقدمتها القضية الفلسطينية.