إن الرابط الذي طال أمده بين اليمين السياسي ومختلف الكنائس المسيحية ينهار في جميع أنحاء أوروبا. هذا إلى حد كبير؛ حين كان اليمين السياسي، مثله مثل المجتمع الأوروبي، أصبح أكثر علمانية من ذي قبل. لكن هذا على العكس، لا يشير إلى تقدم من أي نوع، فالخطاب اليميني، المدفوع بالمشاعر المعادية للإسلام، يهدد حرية الدين، فضلا عن تهديده العلمانية وتقاليد الديمقراطية الأساسية.
هذا ما عبر عنه الكاتب أوليفييه روا في صحيفة "نيويورك تايمز" في مقاله المنشور السبت. وقال إنه حتى الخمسينيات من القرن الماضي، فقد كانت القيم الثقافية التي دعمها اليمين في أنحاء أوروبا لا تختلف كثيرا عن القيم الدينية التقليدية التي يدعمها الكاثوليك أو البروتستانت. وأضاف أنه تم تجريم المثلية الجنسية في العديد من دول أوروبا، كما أن الأطفال الذين يولدون خارج نطاق الزواج يحظون بحقوق أقل من الأطفال "الشرعيين"، فالقانون في معظم تلك البلدان كان يحمي القيم العائلية، وكانت هناك رقابة على بعض أشكال المواد الإباحية وكان القانون يجرم ما يسميه الفرنسيون mauvaises moeurs أي "الأخلاق الفضفاضة".
وجاء في المقال الذي ترجمه موقع "نون بوست"، أن الحال بقي كذلك إلى أن جاءت حقبة الستينيات، ومعها الثورة الثقافية التي اجتاحت المجتمعات الأوروبية مع قيمها الجديدة: الحرية الجنسية، التي تفرق بين ممارسة الجنس من أجل الجنس أو الجنس من أجل الإنجاب في إطار الزواج التقليدي، إلى جانب حقوق المرأة وحقوق
مثليي الجنس. ولفت المقال إلى أنه في البداية كان يُنظر إلى هذه الآراء على أنها من اختصاص اليسار السياسي، لكن في السنوات اللاحقة، أصبحت تلك القيم، قيم التيار السائد في أوروبا.
ويرى أنه، في أيامنا هذه، حتى الأحزاب المحافظة لها باع في تبني تلك القيم. وإذا قلنا إن الناخبين المحافظين، خاصة في الجنوب الأوروبي، لا يزالون يخافون من مثليي الجنس على نطاق واسع،
فإنهم مع ذلك لم يعودوا يرفضون النسوية أو بعض حقوق المثليين، بحسب تعبيرات روا. ويضيف
أن أعضاء بارزين في حزب المحافظين البريطاني أيدوا زواج المثليين، لكنّ الاتحاد الفرنسي من أجل الحركة الشعبية، والمسيحيين الديمقراطيين في ألمانيا ما زالوا يرفضون، لكن أنصار الحزبين بدأوا في تبني قضايا مثليي الجنس بشكل واضح أو دعمها، كما أن الأحزاب الحاكمة في إيطاليا وألمانيا وبريطانيا وبولندا نأت بنفسها عن الكنائس المهيمنة في هذه البلدان.
ويؤكد أنه حتى الأحزاب الشعبوية، التي غالبا ما تتحدى تلك الأحزاب والآراء المحافظة حول قضايا مثل الهجرة، فإنها تسير في نفس الاتجاه. وأشار إلى أن حزب التقدم في النرويج، وحزب الحرية في هولندا يدافعان عن حقوق مثليي الجنس بشكل صريح. أما في فرنسا فقد خففت الجبهة الوطنية موقفها من الإجهاض. وحزب الاستقلال البريطاني من جانبه يؤيد "توسيع الشراكة المدنية"، أي الزواج المدني حتى لو كان بين مثليي الجنس، من حيث إعطائه مكانة متساوية مع الزواج التقليدي.
ويسجل أن كل هذا قد يبدو دليلا على مسيرة عامة للمجتمع نحو الليبرالية، لكن هناك خدعة في الأمر؛ فإنه حتى مع تحرك
اليمين الأوروبي بعيدا عن القيم الأساسية للكنيسة الكاثوليكية والعديد من الطوائف البروستانتية، يكشف مع ذلك أن أوروبا مسيحية أصولية. ويقول إنه في عام 2003 ناضل العديدون من أعضاء حزب الشعب الأوروبي من ائتلاف يمين الوسط في البرلمان الأوروبي، من أجل تعديل ديباجة الدستور الأوروبي. لكن المستشارة الألمانية آنجيلا ميركل أشارت إلى "مسيحية" أوروبا. وفي الوقت نفسه قال ديفيد كاميرون، رئيس الوزراء البريطاني: "أعتقد أننا يجب أن نكون أكثر ثقة حول وضعنا كدولة مسيحية". وعلّق الكاتب بأن الرجل يقول ذلك رغم أنه دعم إقامة حفلات عقد القران لمثليي الجنس في الكنائس.
وللإجابة عن سؤال "كيف يطعن اليمين الأوروبي الكنيسة أثناء طعنه الإسلام؟"، وهو ما عُنون به المقال، يقول الكاتب، إن مثل هذه المواقف قد تبدو وكأنها تشير إلى تناقض صارخ. لكن هذا التناقض يبدأ في التلاشي عندما نبدأ في التفكير في الغرض من إنشاء تلك الأحزاب: اليمين الأوروبي يدافع عن الهوية المسيحية لأوروبا، ليس لأنه يريد أن ينشر المسيحية، لكن لأنه يريد محاربة الإسلام ورفض اندماج المسلمين في المجتمع، أو بحسب ما تسميه "الجبهة الوطنية" الفرنسية: "أسلمة أوروبا".
ويزيد أن الأماكن العامة في أوروبا أصبحت ساحة قتال رئيسية. هناك حظر "الحجاب، وغيره من علامات الانتماء الديني" في مدارس فرنسا، وحظر النقاب في شوارع فرنسا وبلجيكا. كما أن هناك جهودا حقيقية تُبذل لمنع بناء المساجد في جميع أنحاء أوروبا، أو حتى بناء المآذن كما حدث في سويسرا. ويؤكد أن الهجمة على الإسلام في أوروبا تصل إلى أضيق الخصوصيات، فهناك حملات لحظر الختان أو حظر الطعام الحلال في النرويج.
الجدير بالذكر أن هذه التدابير يتم تسويقها باسم حماية المسيحية، وليس العلمانية الليبرالية. يُقال إن الحجاب يسيء إلى حقوق المرأة، والختان يسيء إلى حقوق الطفل، والذبح الحلال يسيء إلى حقوق الحيوان، بحسب ما يرى. ويلفت إلى أن آيان هيرسي علي، وأوريانا فالاتشي، اثنتين من المتحدثين الأصوليين عن المقاومة النسوية للإسلام، أصبحتا مقربتين للغاية من اليمين المحافظ في إيطاليا (أوريانا فالاتشي)، وهولندا والولايات المتحدة (هيرسي علي).
ويسجل ثانية أن هذا الخطاب المعادي للإسلام ينتشر ليصبح التيار السائد. والحكومة الائتلافية في هولندا تطلب من طالبي اللجوء والمهاجرين التوقيع على موافقتهم على "القيم التقدمية" قبل الموافقة على منحهم الإقامة في هولندا. وأنه يُسأل المتقدمون عن موقفهم من الاختلاط بين الذكور والإناث في المدارس، أو عن المساواة بين الجنسين، والعري في الأماكن العامة وعن مثليي الجنس. وعلى الرغم من أن جميع المتقدمين يخضعون لمثل هذه الأسئلة، إلا أن هناك شكا حقيقيا من أن هذه الأسئلة -بالنظر إليها مع خلفية التركيبة السكانية للمهاجرين إلى أوروبا- قد صُممت لتحدي المسلمين المتدينين. هذه التدابير غير عادلة للمسلمين، كما أنها تنتهك الالتزام المعلن للدول الأوروبية بالتعددية الثقافية والفصل بين الكنيسة والدولة.
وأكثر من ذلك، يوضح أن تلك الحملات المضادة لطقوس مثل الذبح الحلال أو الختان، تصل أيضا إلى اليهود. ففي فرنسا، مارين لوبان من الجبهة الوطنية دعت إلى حظر الحجاب، والقبعة
اليهودية في الأماكن العامة. وفي هذا الصدد يتخذ الدفاع عن الهوية المسيحية لأوروبا شكلا قبيحا للغاية؛ إنه يُعيد ما كانت تفعله الأنظمة المعادية للسامية في ألمانيا النازية أو في دول أوروبية أخرى في ثلاثينيات القرن الماضي. ليس المسلمين فقط، لكن هناك محاولات أيضا لإشعار اليهود أنهم غرباء عن أوروبا.
وينبه إلى أنه كان من المنطقي، ومن المفارقة كذلك، أن تبدأ مجموعات يهودية في بناء تحالفات مع المسلمين. ففي ألمانيا عام 2012، احتشد المجتمع اليهودي حول قضية لعائلة مسلمة، رفضت المحكمة أن تسمح لهم بختان ابنهم، وأعلنت المحكمة المحلية أن الختان غير قانوني. وخلال الأسبوع الماضي، كتب نائب الأمين العام للمجلس الإسلامي في بريطانيا لصحيفة التلغراف يدافع عن طقوس الذبح الإسلامية، باعتبار أن "الأقليات الدينية في هذه الحالة لا تتنافر، بل تتضافر".
ويتساءل: هل ستفعل الكنائس الكاثوليكية والبروتسنتانتية الشيء نفسه؟ بعد كل شيء، منذ أن بدأ هجوم اليمين السياسي على الإسلام، وهو يتجلى في الغالب في شكل من الأشكال العدوانية من العلمانية. الكنائس يمكن اعتبار أنها تضررت بشكل جانبي من الهجمة على الدين بشكل عام. القانون الفرنسي يحظر الحجاب ويمنع كل الرموز الدينية بما فيها المسيحية، وفي بريطانيا أُلغي عام 2008، قانون يعاقب على الكفر بالمسيحية بعد جدل ساخن، حول ما إذا كان يمكن استخدام ذلك القانون ضد سلمان رشدي، مؤلف كتاب "آيات شيطانية".
ويقرر الكاتب في "نيويورك تايمز"، أن اليمين السياسي يدعي ارتداء عباءة المسيحية وليس قيمها، وهذا بحد ذاته خطر على الدين المسيحي، فهو يخاطر بتجريد الدين من روحانيته. وفي 2004، وبعد النداءات التي طالبت بحق معلمة مسلمة في ارتداء غطاء الرأس، سنت حكومة ولاية بادن فورتمبيرغ الألمانية قانونا يحظر المعلمين من ارتداء أي رموز دينية باستثناء تلك المعبرة "عن القيم والتقاليد التربوية والثقافية المسيحية والغربية". ونفس المنطق يظهر في قرار المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان بالتصريح بعرض الصليب في المدارس الإيطالية على أساس أن ذلك رمز تاريخي وثقافي أكثر منه تعبيرا عن معتقد معين. ولكن بهذا المنطق، فإن الدفاع عن المسيحية كهوية ثقافية، هو نوع من العلمنة للمسيحية ذاتها، على حد تعبير الكاتب.
ويضيف أنه حتى الآن، ساهمت الكنائس المسيحية في هذه المشكلة؛ لأنها نأت بنفسها بشكل واضح عن الأحزاب اليمينية المتطرفة، والتي تبنت الفكرة المسيحية لمنع دمج المسلمين في المجتمعات الأوروبية. وبذلك فهي مكنت اليمين من المزيد من علمنة الدين، وكذلك سمحت بخيانة القيم الدينية باسم كراهية الأجانب، وباسم الدين ذاته.
ويروي أن الكاردينال كريستوف شونبورن، انتقد في 2009 رئيس أساقفة فيينا، وانتقد استخدام حزب الحرية النمساوي الصليب على الملصقات الانتخابية، وقال إن ذلك قُدم على أنه رمز ضد الديانات الأخرى، وليس تعبيرا عن فلسفة المسيح "أحبوا أعداءكم". ويوافق السيد شونبورن، على أن على كنائس أوروبا التأكيد على القيم الأساسية لدياناتها، بل إن عليها أن تتجاوز ما فعله الرجل لمحاولة بناء تحالفات واسعة مع المسلمين واليهود لدعم حرية ممارسة الدين، أي دين.
ويخلص روا إلى أن الحال بالنسبة لحرية الدين ليس سوى جانب واحد من الديمقراطية التي تأتي لمصلحة الجميع، للمؤمنين وغير المؤمنين على حدسواء، ولذلك فإنه حتى العلمانيون يجب أن
يتبنوا تلك النظرة. ويقول إن الإساءة للعلمانية من قبل الأحزاب اليمينية في أوروبا لاستبعاد المسلمين أمر مخالف للديمقراطية بشكل جذري. إنها هجمة ليس فقط على الإسلام، أو على الأديان، بل على الحرية ذاتها، حسبما قال.