تقصد نظرية الثغور التي تجري محاولة تأطيرها هنا من بعد الإشارة إليها في المقالة السابقة: "
حماس ونظرية الثغور.. نظرة في الوقائع"؛ إلى تحديد دور حماس داخل الحركة الإسلامية العالمية، بما تعنيه من مجموع العاملين لاستئناف الريادة الإسلامية بالتخلص أولاً من الهيمنة الاستعمارية على الأمة ثم الاستمرار في تبليغ الرسالة للعالمين، فالدور هو الأساس الذي تقوم عليه مفاهيم النظرية، فمفهوم الحركة الإسلامية ليس اصطلاحًا يضيق على مقاس حزبي معين، وإنما هو مفهوم يشمل كل قائم بهذا الدور، وخصوصية حماس ليست قائمة على سمات ذاتية جوهرانية ذات طابع حزبي أو وطني أو عرقي أو مذهبي، وإنما متعلقة بالدور الواقعي الناشئ عن ظهورها في
فلسطين، والذي تكفلت بالقيام به في سياق اصطفافها داخل الجسد الواحد للأمة والحركة الإسلامية التي يتحقق فيها أحد معاني الأمة، تمامًا كما أن مهمة الرماة في أحد ليست منفصلة عن سياق المعركة كله، وكما أن الموالاة الإيمانية ضرورة لتحقيق الإمكان في حمل الرسالة ومنع الفساد في الأرض: "وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ"، وينظم هذا النثر الواسع لأجزاء الحركة الإسلامية وحدة الرؤية، والضبط الدقيق للعلاقة بين الدور (الوظيفة الموضعية) والرؤية الكلية، وهذا يتطلب إنتاجًا معرفيًا جادًا ومثابرًا ومستمرًا لتحقيق عملية الضبط وفحصها، وعملية تواصي مستمرة بالحق، فالدين النصيحة، وكان الصحابي يبايع على النصح لكل مسلم.
وهذا يعني أن صاحب الدور الجزئي، وهو دور وظيفي يمليه الواقع وليس دورًا أصليًا يقوم على نمط من العصبويات، ليس حرًا تمام الحرية في التصرف على ثغره، ذلك أنه نائب بوجه ما إلى وقت ما عن الأمة الواحدة في دورها تجاه هذا الثغر، ولأنه جزء من حالة تضافر واسعة، ولكن خصوصية الدور تتطلب اعتبارها من طرف الأمة، فلا تُضاعف أعباء القائم بالدور بما يخل بأمانة الثغر، ما يترتب عليه تداعي الخلل، منظورًا كان أو خفيًا، في كامل جسد الأمة، وضابط ذلك كله؛ الاستطاعة أولاً: "فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ"، ثم التقدير المبيّن للظرف وما تحيط به من مصالح وضرورات، ولأجل ذلك يلزم تعيين المحددات والأسس الضابطة لعلاقة الوظيفة الموضوعية بالمهمة الكلية للأمة.
وللأمة معنيان تتحدد بهما دون تضاد، فالأول سياسي يريد وحدة كل المكونات الدينية والعرقية والمذهبية التي اجتمعت في ظل الحضارة الإسلامية، والثاني معنى خاص بالقائم بدور الدعوة: "وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ"، وهو معنى يتمدد في الشعور بوحدة المهمة والرسالة العابرة للزمان والمكان، بما يجعل أي مهمة في أي زمان وعلى أي ثغر تتميمًا لمهمة سالفة أو متزامنة وتأسيسًا لمهمة لاحقة: "وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ"، ففلسطين وسكانها الأصليون بما فيهم حماس جزء من الأمة بالمعنى السياسي الأول، وحماس جزء من الأمة بالمعنى الخاص المتعلق بحمل الدعوة وتبليغ الرسالة والجهاد في سبيل الله.
وتملك فلسطين على هذا النحو مهمة خاصة أملاها الواقع الاستعماري الذي يتجسد عليها في صورة مباشرة مكشوفة، كجزء ضروري من واقع استعماري يتمثل في صور أكثر مخادعة، بحيث لا يتم تحرر الأمة من الهيمنة الاستعمارية واستكمال نهضتها إلا بتحرير الأمة لفلسطين، ففي الوقت الذي تعمل فيه الأمة على تحرير فلسطين فإنما هي تحرر ذاتها وتؤسس لوحدتها ونهضتها، وقد أثبتت تجارب
الثورات العربية الجارية؛ أنه لا سبيل لتحقيق النهضة إلا بتفكيك الاستعمار الصهيوني والتحرر من هيمنة النظام الدولي، وأن نظريات إرجاء فلسطين إلى ما بعد التمكين لم تكن لتمر على الاستعمار في صورتيه الصهيونية والعالمية، وهو ما يجعل علاقة الأمة بفلسطين تبادلية، فبالقدر الذي تقترب فيه الأمة من فلسطين تقترب من التحرر، بيد أن هذا الاقتراب لا يتطلب بدوره إرجاء عمليات التحرر الذاتي داخل الأقطار بل هو ضرورة وفق ضوابط العلاقة بين الوظيفة الموضعية والمهمة الكلية.
وقد أخذت حماس أهميتها من هذين الموقعين؛ أنها حركة فلسطينية بحكم الواقع وأن فلسطين تملك هذه الوظيفة الاستثنائية، وأنها جزء من الأمة بالمعنى الخاص، أي أمة الدعوة، ولذلك فكما أن لفلسطين حقًا على الأمة لا يتعلق بواجب الأمة الأصلي تجاه ثغر سليب لها وحسب، ولكن أيضًا للدور الوظيفي الذي تقوم به فلسطين في تحرير الأمة، فإن لحماس ذات الحق، والذي يحملها أعباء في المقابل، فإذا كانت مهمتها قد حصرت في فلسطين بما يوجب مراعاة ذلك من طرف الأمة، خاصة مع التعقيدات المتعددة والمتشابكة التي تجعل مهمة مناهضة الكيان الصهيوني من داخل فلسطين بالغة الصعوبة، فإنها مطالبة بتمثل معنى الأمة، أو الحركة الإسلامية التي يتمثل فيها معنى الأمة، فما قد يجوز للأفراد من تراجع أو تنازل أو مساومة على الحق، لا يجوز لعموم الأمة، لأن معرفة الحق منوطة بهذا العموم المكلف ببيانه وحمله للعالمين، ولأن حماس تنوب عن الأمة مؤقتًا ودون أن تخلي الأمة من مسؤليتها، فإنه لا يجوز لها أن تمس الحق، كأن تعترف بـ"إسرائيل" أو تتخلى عن الجهاد في فلسطين أو عن حق الأمة في فلسطين وواجبها في تحريرها، ويبقى فعلها على الثغر وتحركها السياسي مؤطرًا بمثل هذه الالتزامات التي لا يجوز الإخلال بها.
فحماس لا تحظى بهذه المكانة لأي سمة حزبية أو وطنية تميزها، وإنما يمنحها مكانتَها فلسطينُ وقيامُها بدورها فيها والذي هو دور يصب في بحر الأمة أخيرًا، وبالتالي يجردها من مكانتها هذه إخلالها بهذا الدور: "وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ"، وهي وبناء على هذه النظرية يمكنها أن تجترح طريقًا تجمع فيه الأمة على فلسطين، وتقود الحركة الإسلامية على هذه الرؤية، وقد ظهر أنها بجهادها وفهمها الواسع لمفهوم الأمة ومكانتها في وجدان الأمة وامتدادها بين جماهيرها قد توفرت لها مكانة إقليمية لافتة، تراجعت في هذه اللحظة ضمن المتغيرات المعروفة، لكن لا يمكن لهذا التراجع أن يستمر ما التزمت بدورها، وقدرت أمانة ثغرها ومن خلفها الأمة، ومع هذه المتغيرات التي تنبئ بتغير استراتيجي هائل فإن أمام حماس الفرصة لالتقاط اللحظة التاريخية والمساهمة في توجيه مسارها بقيادة الحركة الإسلامية وجمع الأمة على فلسطين.