رغم أن حدة الحديث عن المؤامرة الصهيونية الأمريكية على
سوريا قد خفت في الأوساط الحزبية والطائفية بشكل لافت في الآونة الأخيرة، حتى رأينا مانشيتا كبيرا في صحيفة الأخبار التابعة لحزب الله قبل أيام يقول: "أمريكا للجربا: الانتصار على الجيش السوري ممنوع"، رغم ذلك، إلا أن بعض الذين يجدون موقفهم "الأخلاقي" محرجا أمام الناس لا يجدون بدا من استعادة حديث المؤامرة من جديد، على طريقة "عنزة ولو طارت".
أسخف ما يمكن أن تسمعه من بعض أولئك هو الحديث عن "الإرهابيين والتكفيريين" بوصفهم جزءا من المؤامرة على نظام الممانعة، مع أنهم كانوا رأس الحرب ضد الأمريكان في العراق، وكان النظام يتعاون معهم لبعض الوقت، قبل أن يسلم الراية ويشرع في استهدافهم من جديد بعد أن أمّن نفسه بفشل المشروع الأمريكي في العراق، وسقط الأخير ثمرة ناضجة بيد سيدته إيران.
ليس ثمة عاقل يقول إن أمريكا والغرب يريدون إسقاط النظام السوري، لأن الكل يعلم أن إسقاطه لم يكن يتطلب جهدا كبيرا، وكان بوسع أنظمة عربية أن تدفع كلفة حرب جوية كانت على وشك البدء، لولا أن افتضحت حقيقتها كمسعى لتخليص نتنياهو من السلاح الكيماوي السوري، وهو الموقف الذي أشاد به القوم إياهم، ولم يروا فيه انبطاحا أمام الإملاءات الغربية.
لا يتوقف الأمر عند ذلك، بل يزداد وضوحا بالموقف الأمريكي الحاسم من تزويد الدول الداعمة للثوار بالسلاح النوعي، وهو موقف يؤكد ما ذهبت إليه صحيفة الأخبار، من أن انتصار الثوار ممنوع، لكن أمريكا، وبطلب من نتنياهو لا يرون بأسا في استمرار المعركة إلى سنوات طويلة ما دامت تخدم استراتيجيته المتمثلة في استنزاف جميع الخصوم، وفي المقدمة ربيع العرب الذي أنهكته الأزمة السورية أكثر من أي شيء آخر، ولو نجحت كسابقاتها لكان مشهد المنطقة برمته مختلفا، لكن العناد الإيراني هو الذي أوصل الوضع إلى ما وصل إليه.
لا المبدأ ولا الأخلاق، ولا حتى القيم الدينية تبرر لإيران ما فعلته في سوريا، فالحسين هنا هو الشعب السوري، وليس بشار، وسياسيا لا يمكن الانتصار في معركة من هذا النوع، بمعنى إعادة الوضع إلى ما كان عليه، وهي نزيف طويل بثمن باهظ (دعك من استعداء غالبية الأمة).
هي حرب طويلة فُرضت على الشعب السوري فرضا، وهو لم يقررها، وإن كان قراره واضحا بالتخلص من الدكتاتورية والفساد، شأنه في ذلك شأن بقية الشعوب التي ثارت، وظن أن العالم سيقف معه، مع أننا قلنا منذ البداية أن ذلك لن يحدث، وحين كان البعض يتجادلون حول شرعية التدخل الأجنبي، كنا نقول لهم إنه سؤال بلا قيمة، لأن الغرب لن يتدخل، ولن يمنح الشعب السوري حريته، وهو يدرك أن الشعب أكثر إصرارا على المقاومة والممانعة من النظام، وأكثر انحيازا لفلسطين وقضيتها، لكن الموتورين لم يكونوا يجدون حرجا في تجريم شعب مقابل تمجيد طاغية يعلم الجميع كيف جاء إلى السلطة عبر التوريث في دولة جمهورية، ومن هم الذين نصبوه، وبأي منطق طائفي كانوا يتحركون.
اليوم يريدون أن يقنعوا العالم، وبمنطق طاعن في السخف، أن في سوريا انتخابات ستجري، وهو أمر ليس بمستغرب عليهم، فقد وقفوا مع انقلاب السيسي لحسابات حزبية، وراحوا يتحدثون عن وقوفه في وجه أمريكا، قبل أن يصفعهم بحقيقة مواقفه.
في سوريا، حرب طويلة، واستنزاف لا أحد يجزم بمداه، لكن ما يجري ليس جريمة الشعب، بل جريمة النظام ومن وقفوا معه، وفي المقدمة إيران، وتبعا لها من يبررون طغيانه وقتله للأطفال والنساء بالبراميل المتفجرة دون وازع من خلق أو ضمير. وهي أيضا جريمة تتولى كبرها أمريكا التي تقف إلى جانب استمرار القتل والتدمير بالضغط لمنع السلاح النوعي عن الثوار، وتفاوض إيران على النووي لصالح نتنياهو، من دون أن ترى فيما تفعله في سوريا جريمة تستحق أن توضع على بساط البحث.
وفي نهاية المطاف لن يعود الوضع إلى ما كان عليه، وسيسطر التاريخ في صفحاته من هم الذين وقفوا مع القيم والأخلاق وانحازوا لشعب يطلب حريته، ومن الذين انحازوا لحزبية أو طائفية وبرروا قتل الناس وتدمير البلد من أجل الاحتفاظ بنظام طائفي دكتاتوري فاسد.