من أكثر الأخطاء التي وقعنا فيها في
ثورة يناير أننا لم نكن نملك رؤية لأي شيء بعد سقوط مبارك. لذلك بعد سقوط المخلوع كان من الطبيعي أن تعود كل فئة لأجندتها الأيدولوجية.
فظهرت النزاعات والخلافات بين الاسلامين والعلمانين عموما بتوجهاتهم المختلفة، فداخل الاسلاميين نجد: الاخوان والسلفيين والاسلاميين المستقلين وبعض الاحزاب مثل الوسط والبناء والتنمية. وداخل العلمانين نجد: الاشتراكين الثوريين، الاشتراكين الديموقراطيين، الليبراليين، بعض النشطاء المستقلين.
وظهرت ايضا الخلافات الحزبية والتحالفية داخل كل معسكر فالكل كان مختلفا مع الكل.
في حين أن اغلب من كانوا على الساحة لم يتعمقوا في دراسة أو معرفة الفئة الاخرى والتعرف على تصورها الايدولوجي.
فكان الطابع سواء الذي كونه الاعلام في عهد المخلوع أو الطابع التاريخي هو السائد في تصورات اي طرف مقابل .
قبل سقوط المخلوع يوم 11 فبراير 2011 كان الكل متفقا ومجتمعا على معاداة الظلم واسقاط النظام وتحقيق العدالة الاجتماعية وتوفير العيش واسترداد الكرامة، في حين أن احدا لم يسأل عن ماهية أو تعريف المفاهيم السابقة وتصورها عند كل طرف أو عند كل فرد مشارك في الثورة.
لقد كان شعار الثورة: عيش، حرية، عدالة اجتماعية، كرامة انسانية.
لكن ما هو تعريف العدالة الاجتماعية؟ وما هو المنهج لتحقيقها؟ وماهو تعريف الحرية؟ وما هو تعريف الكرامة؟؟
الجميع كان يعتقد أنها مفاهيم بديهية متعارف عليها، وهذا ايضا نتيجة قلة الوعي، لكن الحقيقة أن كل تلك المفاهيم السابقة كانت مختلفة التعريفات داخل تصورات كل طرف ايدولوجي.
لقد كان التجمع الثوري في 25 يناير حتى 11 فبراير تجمعا براجماتيا، فقد نزل الناس بطوائفهم واتجاهتهم المختلفة مجتمعين على مصلحة واحدة، لكن بعد سقوط المخلوع مباشرة فإن كل طرف راودته احلامه الايدولوجية.
وسرعان ما رفع اجندته وصرح بها، وفي المنتصف كان هناك شباب وأناس كثيرون غير مؤدلجين تاهوا في وسط تلك النزاعات الايدولوجية وفقدوا الامل في كل شيء.
لقد انهار هذا التجمع البراجماتى سريعا، ومحاولة اعادته سواء بخلق نفس ظروف الظلم أو بإصدار البيانات تحت مسمى "الاصطفاف الثوري" هو درب من الخيال.
لماذا هو درب من الخيال؟
لأن بيانات الاصطفاف الثوري تلك تصدُر منذ 4 سنوات ولم تنجح مرة في صنع الاصطفاف الثوري.
لأن الفجوة الايدولوجية اصبحت واسعة جدا وكل طرف اصبح مدركا لنوايا واجندة الآخر ولن يتساهل في التنازل لطرف يعلم أنه سيسلك ضد منهجه .
بعد آخر الشعارات التي رُفعت في ثورة يناير أنها كانت تمثل خطاب ما بعد الأيدولوجية يتميز بانتهاء السرديات الكبرى مثل: المعارك العقدية أو الأيدولوجية.
وظهور السرديات الصغرى واحتلالها مركز الصراع وهي مثل: معركة العيش أو معركة الكرام، وذلك ربما يمثل طرح ما بعد الأيدولوجيا الذي ظهر مؤخرا .
لكن ما المطلوب؟ هل المطلوب أن يتنازل كل طرف عن اعتقداته؟ اظن أن هذا خيال.
أم المطلوب أن يتمسك كلا بتصوراته وننسى أي اصطفاف ثوري؟ الإجابة ايضا لا.
لكن لكي نستطيع تدبير إجابة خاصة في هذا الواقع المتلاطم والمعقد، ربما علينا الاستلهام من التاريخ وأنسب تجربة يمكن الاستلهام والنظر إليها هي تجربة الثورة الايرانية واظنها ربما تكون الثورة الوحيدة التي نجحت وحققت جزءا كبيرا من اهدافها في العصر الحديث.
ملخص الثورة الايرانية أنهم أجروا انتخابات وجاء رجل يسمى "محمد مصدق" رئيسا للوزراء كان يريد القيام بعدة اصلاحات اقتصادية واجتماعية وبدأ في معاداة مصالح امريكا الاقتصادية داخل ايران.
تعاون "السافاك " مع جهاز المخابرات الامريكية وقاموا بانقلاب على "مصدق" يشبه انقلاب مصر وعاد الشاه حاكما لإيران.
وبعد 10 سنوات من الظلم والاضطهاد الفقر وتجريف الثقافة الاسلامية قامت الثورة الايرانية في 1979، وهرب الشاه وقامت الدولة الايرانية بنظام ولاية الفقيه.
بغض النظر عن نظام ولاية الفقيه الذي يخص الشيعة، لكن الناظر في العشر سنوات التي سبقت الثورة يجد أنها لم تكن عشر سنوات من الاضطهاد والظلم، فقط بل كانت ايضا عشر سنوات من نشر الوعي الثوري والوعي العقائدي والتنظير والتخطيط للثورة والتبشير بالثورة الاسلامية والعدالة الاسلامية.
لم يكن التجمع الثوري في الثورة الاسلامية تجمعا براجماتيا أبدا، بل كان تجمع على عقيدة واحدة ووعي متقارب وتصورات عقائدية تنطلق من ثوابت ومرجعيتها القرآن والسنة.
لذا كان لزاما أن نقول "
كلمة التوحيد قبل توحيد الكلمة" الوعي العقائدي قبل الوعي الايدولوجي والخطاب العقائدي قبل الخطاب الايدولوجي، والتجمع على عقيدة واحدة ونبذ التصورات الجاهلية وثقافة سايكس بيكو هو من سيحقق الفارق.
الوعي أننا جزء من الأمة مكلف بنشر دعوة الحق ومحاربة الطواغيت وتحريض الأمة ضدهم، وإبانة سبل النجاة دون إدعاء بإصابتها المطلقة أو أن هذا المنهج أو تلك الفرقة هي الناجية.
وإنما الكل يسدد ويقارب تحت مظلة العقيدة ومحاربة الطواغيت.
لكن التجمع البرجماتي مرة اخرى ثم انهياره واستمرار الخلافات الايدلوجية والحزبية سيجعلنا نستمر في الدوران في حلقة مفرغة .