هذه المرّة ــ ولأوّل مرّة ــ "
باريس" تتحدث "
الفلسطينية" بلهجاتها العتيقة والمخلوطة بزيت الزيتون المقدسي والمعطّرة برائحة البرتقال اليافاوي! لهجاتٌ تسمّر زمانُها ستة وستين عاماً على أعتاب أيّار ما تغيّرت ولا تبدّلت، وما اعوجّ لسانها ولا التوى رغم تبدّل المكان حتى لم تعد في مكان! رفضت التعاطي مع زمن الهزيمة أو الاعتراف "بالواقع" مهما كان برّاقاً، تنام في "فيِّ التينة" وتتدثّر "بلحاف الصوف" وتستضيء "بالسْراج" أو "الفانوس"! لم تتأقلم مع "أنوار" "إيفل " أو تنبهر بأعجوبة "بيزا" أو عراقة "بيج بن"! يافاويةٌ حيفاويةٌ عكّاويةٌ رملاويةٌ لدّاويةٌ جليليةٌ صفديةٌ ناصريةٌ ... كما أنّها ضفّاويةٌ غزّيةٌ ... هيَ هيَ ذاتها لكنة لم تُبلعُ "راؤها" أو تختفي "ضادها" أو تتمدّن "تشاؤها"!!.
نعم! هذه المرّة ها هُم حملةُ بيارق "العودة" في أوروبا يضيؤون شعلتهم في "باريس"، بعد أنْ حملوها وتناقلوها بين عواصم أوروبا لسنة كاملة ليؤكّدوا للعالم - الذي "شتّتهم" في أصقاع الأرض بعد أن انتزعهم من أرضهم وزرع فيها كياناً غاصباً - أنّ نهاية مطاف هذه البيارق على أسوار عكا وجبل الكرمل وسهول مرج بن عامر مهما طال الزمن وتعاقبت الأجيال.
أبى "الشتات" هذه المرّة إلاّ أنْ ينصبَ خيمته في "باريس" بعد أنْ نصب اثنا عشرة خيمة قبل ذلك في اثنتي عشر عاصمة أوروبية ... فليالي "باريس" هذه المرّة تتلألأ بأنوارٍ لم تعهدها وأعلامٍ لم تعرف رسمها.
سلمت يمينكم يا من تقبضون على "زناد" راياتكم لأسابيع وأشهر "تُعِدّون ما استطعتم" من جهد وفكر وإدارة وهمّة حتى تخرج لوحتكم بأبها نقوشها؛ تماماً كتطريزة ثوبِ عروس "رامية".
يبدأ التوفيق والنجاح من اختيار شعار المؤتمر: "فلسطين تجمعنا والعودة موعدنا"، وقد صدّق فعلُهم قولَهم؛ فكانت فلسطين كلُّ فلسطين حاضرةً، وكان كلُّ "الموزاييك" الفلسطيني حاضراً؛ دولة السيّد طاهر المصري برسميته الأردنية وعمقه الفلسطيني كان أحد التلوينات الرائعة التي مثّلت "الشتات" بكتلته الأكبر، وكلمتُه أكّدت الأصالة والصدق اللذين يليقان بالرجل والمناسبة.
كلّ الثنائيات الفلسطينية تألّقت: الداخل والخارج، الرجل والمرأة، المسلم والمسيحي، الشبابّ والكهول، الدّاخل كان حاضراً في الخارج! "عزيز الدويك" الإسلامي "الحمساوي" مثّل بكلمته الشرعية جنبا إلى جنب مع "هايل الفاهوم" رمز "الرسمية" لسلطة رام الله وكذا هاني المصري ممثل "النخبة" فيها، عمق ال 48 بعراقة الناصرة والمسيحية الفلسطينية كان رمزها ورمز المؤتمر المطران رياح أبوالعسل الذي تألّق في تقديمه الناشط الإعلامي خالد الترعاني، الإعلاميون والناشطون الفلسطينيون و"نخب" الشتات كانوا نجوماً بحقّ؛ أيقونتهم الرائع جمال ريان على كرسيّه المتحرك الذي كان يتسابق الآلاف لالتقاط الصور معه. ثلّة من رموز فلسطينيي أوروبا حسام شاكر وأمين ويحيى عابد وطارق حمود ومحمد حنّون وجمال أحمد وأحمد محيسن ... قائمة طويلة من الأكاديميين والناشطين نجح القائمون على هذا المؤتمر أن يجمعوهم ليرسموا لوحةً واحدة هي "فلسطين" كلّ فلسطين بتلاوينها وأطيافها وليرتّلوا ترتيلة العشق الأبدي لها؛ كلّهم من "باريس" عمق أوروبا هتفوا وغنّوا لحناً وقولاً وحُلماً وواقعا وسياسةً وفنّاً وفكراً وديناً: فلسطينُ تجمعنا والعودة موعدنا!
بكلّ الإصرار الذي ما هشّمته ستٌّ وستّون سنة من المعاناة والتشرّد والموت في الصحاري والبحار، بكلّ اليقين بالحقّ الذي ما خدعته المفاوضات والتسويات والمعاهدات، بكلّ الإيمان بالنّصر الذي ينتقل عبر الدّم والشرايين للأجيال ... في كلّ سنة يجتمع فلسطينيو أوروبا بكلّ ذلك الإصرار واليقين والإيمان ليلتفّوا حول خارطة فلسطين الكاملة ويكتبوا بكلّ الألوان كلمة: "العودة".
كان واضحاً حرص القائمين على المؤتمر واعتزازهم بالعمق العربي والإسلامي؛ فكان حاضراً ومتميّزاً برمزية "عبد الله بن منصور" وذاتيته كرئيس لاتحاد المنظّمات الإسلامية في أوروبا، كُبرى المؤسسات الإسلامية وأهمّها في القارّة الأوروبية، وكذلك الأداء الراقي للسيّدة "محرزية العبيدي" نائب رئيس المجلس التأسيسي في تونس كممثّلة للربيع العربي وروحه النابضة في تونس الخضراء!
أيّها القائمون على هذا العرس من نعرفُ منكم ومن نجهل: سلمت يمينكم وبوركت جهودكم فقد نجحتم - على مدى ثلاثة أيام - بتحويل "باريس" إلى "سولافةٍ" عن العودة تحكيها الأجنّة في أرحام الأمّهات بلكنة مَن توسّدوا تراب الشتات وهم يحلمون "بالعودة".