كتب ناثان براون: في واشنطن الأسبوع الماضي، انتقد البيت الأبيض بحدة المسار السلبي للسياسة
المصرية. وجاء في تصريح البيت الأبيض ما مفاده أن أحكام الإعدام الجماعية التي صدرت بحق المئات من المصريين، وسجن الصحفيين والنشطاء، وتشديد القيود على حريات التعبير والتجمع، لا تسبب فقط "قلقا عميقا"، وإنما تسبب "قلقا متناميا" أيضاً.
بدا وزير الخارجية المصري نبيل فهمي، كما لو كان يمثل بلدا مختلفا جدا حينما تباهي بأن مصر تحقق تقدما صعبا، وإن كان ثابتا، باتجاه الديمقراطية منذ الإطاحة بالرئيس محمد مرسي في الصيف الماضي.
خاطب نبيل فهمي حشدا من الناس في واشنطن قائلا: "لقد ثار الشعب المصري مرتين من أجل النظام الديمقراطي. فذلك هو هدفهم، وهذه هي الوجهة التي يسيرون نحوها. إلا أن العملية لابد أن تمر بمرحلة انتقالية".
إلى أين تسير السياسة في مصر؟ إن المبرر الرئيسي الذي يرتكز عليه النظام المصري في تفاؤله اليقيني هو قائمة المهام المطلوبة. فهم يقولون بأن وزير الدفاع آنذاك عبد الفتاح
السيسي كان قد تقدم بخارطة طريق في الثالث من يوليو، وها هو الآن يستعد لاستلام الرئاسة، فقط بعد أن انتهجت البلاد بكل إخلاص الخطوات التي حددها في العام الماضي، ويرون أن تسليط الضوء على حدث سلبي هنا أو هناك -كما يبدو لهم ديدن الدبلوماسيين الغربيين والصحفيين الأجانب- إنما يتجاهل ما تم تحقيقه من تقدم.
يستحق المصريون من وجهة نظرهم تقديرا لهم على الوفاء بما وعدوا أن يقابلوا ليس بالشجب والنقد، وإنما بوسام شرف على نجاحهم في إدارة الانتقال الديمقراطي في أحلك الظروف وأصعبها.
ولذا، تعالوا بنا نستحضر
خارطة طريق الثالث من يوليو، ونستخدمها وسيلة لقياس ما يجري الآن في مصر.
يستدل من النص المكتوب ومن الروح العامة، أن أجزاء من خارطة الطريق قد أنجزت فعلا، إلا أن أجزاء هامة تم نسيانها أو تناسيها أو جرى انتهاكها، وهذا ما يؤشر على الطبيعة المعطوبة، وبشكل خطير للفترة الانتقالية المصرية التي يتحدثون عنها، فإذا كانت البلاد تنتقل نحو شيء ما فهو بالتأكيد ليس الديمقراطية بأي شكل من الأشكال إلا فيما يتعلق بالناحية التقنية للمصطلح.
ماذا كانت عناصر خارطة الطريق؟ فلنركز أبصارنا على النص وعلى الروح في نفس الوقت.
1) تعليق الدستور الذي كتب أثناء ولاية مرسيالنص الحرفي لخارطة الطريق: تعليق مؤقت للدستور، وتشكيل لجنة من القوى من الطيف السياسي ومن الخبراء لصياغة ومراجعة التعديلات المقترحة.
روح خارطة الطريق: التحرك بسرعة ومن خلال الخبراء والتوافق في سبيل إجراء تغييرات محدودة في دستور 2012.
الأداء: لقد تم تعليق الدستور بلا شوائب، ولكن ما لبثت العملية أن واجهتها المشاكل. فقد تم تعديل الدستور بشكل قد ينطوي على مخالفة للنص الحرفي لخارطة الطريق وبالتأكيد على انتهاك لروحها.أولاً، لم تكتف اللجنة بالعبث بالدستور بل قامت بإعادة كتابته بشكل ممنهج من أوله لآخره. هل كان لذلك أهمية؟
ليس بالنسبة للجميع، فيما عدا السلفيين الذين كانوا يرغبون في تعديلات طفيفة فقط ليتمكنوا من حماية الأجزاء المفضلة لديهم، والتي بدت وكأنها تعد بدور أكبر للشريعة الإسلامية. انتهى المطاف بهذه الأجزاء على الأرض وقد نالها التمزيق.
اشتكت القيادة السياسية للسلفيين في البداية ولكن قررت فيما بعد دعم العملية، وهم الآن يدعمون السيسي رئيساً لمصر أملاً في ضمان استمرار وجودهم القانوني.
وهذا يقود إلى المشكلة الثانية وهي المشكلة الأكبر: والمتمثلة بأن أجزء محدودة فقط من الطيف السياسي كانت ممثلة في عملية التعديل، وذلك على النقيض مما تم الوعد به أصلاً. ولم يحصل الحزب الذي كان الأكبر في الانتخابات البرلمانية السابقة على أي مقعد ضمن المقاعد الخمسين للجنة التعديل.
أما الحزب التالي له حجماً فحصل على مقعد واحد. ما السبب في هذا السهو؟ السبب هو أنهم إسلاميون.كما أن اللجنة بدت منحازة لصالح مؤسسات الدولة، والتي كان لها أكثر من مجرد صوت في العملية، بل بدت كما لو تمتعت بحق النقض (الفيتو). أما القوى السياسية خارج مؤسسات الدولة، فسمح لها فقط بأن تزين الخطوط الداخلية في لوحة هيمن عليها العسكر ومسؤولو الوزارات، والقضاة والشرطة.
2) الرئيس بالوكالة
النص الحرفي: يعين رئيس قضاة المحكمة الدستورية رئيساً بالوكالة إلى حين انتخاب رئيس جديد.
الروح: لم يرجع محررو خارطة الطريق إلى دستور 2012 وإنما إلى دستور 1971 لاختيار المسؤول الذي يخلف الرئيس في مهامه، ألا وهو رئيس قضاة المحكمة الدستورية، وذلك بهدف قلع شخص كان يمكن لو سلم مهمة الرئيس بالوكالة أن يأخذها على محمل الجد.
الأداء: حينما عين عدلي منصور وصفته بعبارة "ابتسامة لطيفة وشفتان مطبقتان"، وقد ثبتت صحة هذا الوصف- - إلى حد ما.
مرت عدة شهور قبل أن يتمكن منصور من الابتسام للعامة وهو على رأس عمله، ولكنه ابتسم في نهاية المطاف.
وحينما فتح شفتيه كان ذلك بشكل عام لإلقاء خطب تكون في العادة موجزة جداً لدرجة أن الكوميدي باسم يوسف تهكم عليه من خلال الظهور بمظهر رجل جالس وأمامه صحن من الذرة (البشار) لا يكاد يتناول منه شيئاً قبل أن ينهي الرئيس خطابه.وبذلك يكون هذا البند قد نفذ نصاً وروحاً وبشكل تام، بل وحصلت مصر علاوة على ذلك على مكافأة تمثلت في ضمان من نوع ما بأن ينص كتابة على الفترة الانتقالية بشكل قانوني صحيح نظراً لأن هذا هو ما يحسنه الرئيس بالوكالة ويتميز به.
3) الأحكام المؤقتة
النص الحرفي: ستكون لدى رئيس المحكمة الدستورية صلاحية إصدار الإعلانات الدستورية أثناء الفترة الانتقالية إلى أن يتم انتخاب الرئيس الجديد.
الروح: بعد أن عزل الرئيس حسني مبارك في فبراير 2011، ظل حكام مصر يلعبون بقواعد السياسة من خلال سيل من "الإعلانات الدستورية"، والتي كانت تصمم في بعض الأوقات بحذاقة وبراعة وفي بعض الأوقات بلا حذاقة ولا براعة، ولكن دوماً بهدف إمالة الملعب السياسي في الاتجاه الذي يخدمهم.
وكانت محصلة عملهم ذلك سيئة من الناحية الفنية، بسبب تركهم لكل أنواع الثغرات وزرعهم لكل أنواع القنابل الموقوتة في هذه الوثائق.
والآن، وبتسليم هذه المهمة لرئيس قائم بالأعمال - هو في نفس الوقت قاض في المحكمة الدستورية - يتوقع أن تكون الأحكام الانتقالية في حدها الأدنى من حيث الكم ومترفعة عن الحزبية.
الأداء: جيد جداً. فقد استخدم منصور الصلاحيات الممنوحة له لإصدار عدد معقول من الإعلانات الدستورية:كان أحدها لحل مجلس الشورى، آخر معاقل جماعة الإخوان المسلمين في السلطة، وجاء الآخر لإصدار إطار انتقالي للحكم الذي انتهت صلاحيته حينما تم إقرار الدستور الجديد في استفتاء يناير 2014.
وقد سمحت هذه التعديلات للرئيس بأن يغير ترتيب الانتخابات بحيث تجري الانتخابات الرئاسية قبل الانتخابات البرلمانية. إلا أن ثمة بعض علل هنا. فبينما كان لجوء منصور إلى إصدار الإعلانات الدستورية معقولاً إلا أنه أصدر كذلك قوانين بمراسيم رئاسية ما من شك في أنها أضرت بالجهود المبذولة في مصر للتحول نحو الديمقراطية.
وكان على رأس هذه القوانين قانون ملتبس استغلته القوات الأمنية لفض كثير من الاحتجاجات الشعبية. وهو الآن يفكر بإصدار قوانين ضد الإرهاب لا تقل التباساً ويمكن بنفس الطريقة إساءة استغلالها لترسيخ الاستبداد.
4) الحكم التكنوقراطي الانتقالي
النص الحرفي: تشكيل حكومة من الخبراء الوطنيين الأقوياء والمتمكنين تتمتع بكافة الصلاحيات أثناء الفترة الانتقالية.
الروح: بغض النظر عمن توجه اللوم إليه — الدولة العميقة، حركة إسلامية دموية التفكير، أو حكم التحديات الهائل — فقد كانت مصر في حالة من التيه حينما كان مرسي رئيساً لها، وكانت مشاكلها الاقتصادية تزداد تفاقماً وبدت البلاد مستعصية على الحكم. وكانت الفكرة في الصيف الماضي تتمثل في الإتيان بمجموعة من الأشخاص على درجة عالية من الكفاءة ليديروا شؤون البلاد ويضعوا السياسات بينما يتم في هذه الأثناء حسم القضايا السياسية الأساسية.
الأداء: انطلاقة قوية عند البوابة ولكن لا يوجد ما يشير إلى أي اقتراب من خط النهاية. فالحكومة التي عينت في يوليو 2013 ربما كانت على الورق أكثر حكومة مصرية مؤهلة. كانت تحتوي بعض الشخصيات السياسية، ولكن كان أعضاؤها في الغالب من حملة الشهادات العليا ومن ذوي الخبرات الطويلة والسمعة الحسنة.
ولكن، وكما تبين من بعد، كان تنقصها الصلاحيات والرؤية والاتساق. تركت قضايا الأمن لجهاز الأمن المصري بما لديه من أجندات خاصة وخطط سرية، والذي بدا أكثر اهتماماً بالانتقام منه بإعادة بناء الدولة سياسياً. أما في الجانب الاقتصادي، فقد تم تصميم بعض الخطط ولكنها وضعت على الرف.
حاول الزعماء الأجانب الذهاب مباشرة لرؤية السيسي، على اعتبار أنه الزعيم الحالي والقادم. كانت القرارات فيما يبدو تتخذ -أو توضع على الرف- من قبل قوى تعمل في الظل.
ونتيجة ذلك، ظلت البلاد في حالة من التيه، ولم يجد أكثر الوزراء تأهلاً وقدرة مفراً من الاستقالة والخروج من الحكومة.
حينما يخطو السيسي إلى داخل القصر الرئاسي فإنه سيجد صندوقاً للرسائل الواردة شبيهاً بذلك الذي استقبلت به الحكومة في يوليو الماضي حينما استلمت مهامها — ولكن يكون مختلفاً عن ذلك الذي استقبل به مرسي في يونيو 2012.
5) الانتخابات البرلمانية
النص الحرفي: توجب على المحكمة الدستورية العليا الاستعجال بمراجعة قانون الانتخابات البرلمانية الذي كان قد أجازه مجلس الشوري الذي كانت تسيطر عليه جماعة الإخوان المسلمين، وبعد ذلك تتوجه البلاد نحو إجراء الانتخابات البرلمانية.
الروح: ظلت مصر بلا برلمان منذ يونيو 2012، والمفروض أن تحصل على برلمان بسرعة.
الأداء: يظل النص الوارد في خارطة الطريق بلا إنجاز على الإطلاق — ولم يحصل أن رفع القانون إلى المحكمة الدستورية العليا. وبدلاً من ذلك اعتمد منصور عدداً من المحامين كلفهم بصياغة قانون جديد.
وهذا يعني أن روح المادة قد تعرض للانتهاك أيضاً — وقد يستغرق الأمر عدة شهور قبل أن ينتخب البرلمان، وبسبب هذا التباطؤ فقد طالت جداً مدة الفترة الانتقالية في مصر.
لعل أحد فوائد هذه الإجراء هي أن مصر قد تحصل على أول قانون انتخابات برلمانية منذ سبعينيات القرن الماضي تعتبره المحكمة الدستورية العليا دستورياً. من الجدير بالانتباه أن منصور يقوم بدور مزدوج فهو رئيس قضاة المحكمة الدستورية العليا وهي الشخص الذي يشرف على صياغة القانون.
وهنا يتوجب عليه أن يعفي نفسه من الدور الأول إذا ما عكفت المحكمة الدستورية العليا على مراجعة القانون الذي ساهم هو في صياغته. في نفس الوقت يحتمل أن يتشكل لديه انطباع أثناء إعداد القانون عن الكيفية التي سيتعاملون بها مع القانون بعد أن يرفع إليهم.
6) إصلاح وسائل الإعلام
النص الحرفي: وضع ميثاق شرف يضمن حرية وسائل الإعلام ويحقق معايير المهنية والمصداقية والموضوعية ويرتب أولويات المصالح العليا للوطن.
الروح: حمل وسائل الإعلام على إصلاح نفسها.
الأداء: تم نسيان النص تماماً. وماذا عن الروح؟ نحي المهنية جانباً، إذ يبدو أن وسائل الإعلام المصرية مختصة في صب البنزين على أي لسان لهب ثم تصرخ داخل مسارح مكتظة بالجمهور “هذا حريق”.
الاندفاع لا الأخلاقيات هو ما يميز وسائل الإعلام تلك. ولم يتترك وسائل الإعلام لتقوم بمهمة إصلاح ذاتها، بل امتدت لها بالعون أيادي القوات الأمنية والمدعي العام -أو إذا ما أردنا التعبير عن ذلك بصيغة معدلة قليلاً، امتدت لها بالعون قبضة حديدية- من خلال سجن الصحفيين، سواء كانوا مصريين أو أجانب، الذين يدسون بأنوفهم حيث لا ينبغي لها أن تتواجد.
7) إدماج الشباب
النص الحرفي: اتخاذ الإجراءات التنفيذية لتعزيز قدرات الشباب وإدماجهم في مؤسسات الدولة، ليكونوا شركاء في صناعة القرار كمساعدين للوزراء والمحافظين وفي مختلف المواقع التنفيذية.
الروح: حمل الكهول في مصر على إضافة عدد قليل من المقاعد حول الطاولة التي يجتمعون من حولها.
الأداء: حصل قليل من الالتزام بما نصت عليه خارطة الطريق بهذا الشأن. ولكن، لو تجاوزنا الرمزية لوجدنا أن مصر مايزال يحكمها الكهول من الرجال (والقليل من كهول النساء).
ثمة مؤشرات على أن حكام مصر الجدد لديهم إحساس بوجود مشكلة — ولا أدل على ذلك من القلق الذي شعر به الكثيرون بسبب انخفاض مشاركةالشباب في الاستفتاء على الدستور في وقت مبكر من هذا العام.
ومع ذلك لم يزل حكام مصر يلجأون إلىالضرب على الرأس كلما ووجهوا بحراك شبابي ثائر. ولقد وجدت واحدة من الحركات الشبابية الأبرز، حركة 6 إبريل، نفسها مؤخراً تحظر ويعتقل زعماؤها.
8) المصالحة الوطنية
النص الحرفي: تشكيل لجنة عليا للمصالحة الوطنية أعضاؤها من الشخصيات التي تتمتع بالمصداقية والقبول لدى كافة النخب الوطنية ويمثلون الحركات المختلفة.
الروح: أليس بوسعنا جميعاً أن نتوافق؟
الأداء: لا، ليس بوسعنا ذلك. ماذا عسانا نقول إضافة إلى ذلك في بلد باتت “المصالحة” فيه كلمة قذرة؟
شهد الصيف الماضي بعض الجهود ولو على استحياء للسماح ببعض الوساطات. إلا أنه ومنذ ذلك الوقت تعرض للهجوم كل من فكر بالتوسط بدلاً من يلاقى بالترحاب. ببساطة، لا توجد أدنى محاولة للالتزام لا بالنص ولا بالروح أزاء هذا البند.
منذ أن أطيح بمرسي صدرت أحكام بالإعدام على ما يزيد عن ألف شخص، وسقط الآلاف صرعى بسبب العنف، ووصل عدد المعتقلين إلى ما يزيد عن عشرة آلاف، ولذلك فإن الادعاء بأن مصر تعيش في حالة تحول نحو الديمقراطية لا يقنع أحداً من المراقبين في الخارج.
ولكن حتى بالقياس إلى قائمة المهام التي وضعتها السلطة الحالية لنفسها، فإن سجل مصر ليس سواء. فالإخفاقات ليست جميعاً ذات طبيعة فنية أو قانونية — بعضها، مثل مصير التعهد بتحقيق المصالحة أساسي. كما أن العملية استغرقت أكثر بكثير مما كان مقترحاً في يوليو 2013، مما مكن قادة البلاد الجدد من التحكم في الملف كما يريدون.
إن وجود رؤيتين في مصر — واحدة تنزلق نحو الاستبداد، والأخرى ملتزمة بالسير بالشعب نحو مستقبل ديمقراطي — يفاقم المشاكل التي تواجه القيادة في البلاد. ونتيجة لذلك، يعتبر المدافعون عن النظام الجديد كل تصريح يعبر عن القلق تجاه المناخ السياسي في البلاد موقفاً معاد لمصر.
تارة أخرى، يتم الخلط بين النظام والدولة والمجتمع في النقاشات السياسية الدائرة — ولا يوجد مؤشر أفضل من ذلك على تحطم الآمال التي عقدها الناس على الثورة عام 2011.
(عن مجلة فورين بوليسي الأمريكية - ترجمة "عربي21")