دون البحث في العدد الحقيقي للأحزاب المرخص لها قانونا، أسعى بكثير من الحذر في تحسس واقع الأحزاب
التونسية في أفق العملية الانتخابية القادمة في نهاية 2014. اذ يبدو أن الشاغل الانتخابي قد جذب كمغناطيس كبير كل اهتمامات النخب الحزبية من كل الأطياف، حتى أنها تخلت عن كل نشاط سياسي ذي طبيعة ظرفية. بل ربما عارضت كل نشاط بدعوى الإعداد للانتخابات. فما الذي يختفي خلف المشهد الصامت سياسيا الآن؟ وما هي آفاق تحركه يوم يخرج من حالة السبات الانتخابي؟
مشهد ثابت بحراك مزيف
المشهد الحزبي الآن وهنا يستنسخ نفسه على نفس قواعد الاستقطاب القديمة، ولا يقدم قراءات فعالة تفتح على تغيير حقيقي في المشهد السياسي ما قبل
الانتخابات. فالقوى السياسية التي كانت موجودة قبل الثورة وتشكلت في أحزاب قانونية لاحقا ما زالت مقيمة في حقول العمل الأيديولوجي الذي نشأت على أساسه ولم تظهر ميلا إلى مراجعة الخلفيات الفكرية بما ينتج حراكا جديدا ومختلفا. أحزاب كلاسيكية لشارع يرفض التحزب الأيديولوجي بما يرسخ قطيعة فعالة بين الأحزاب والناس.
وأعني هنا:
• كتلة أحزاب اليسار والتي وإن تشكلت في جبهة إلا أنها تقيم على نفس المبادئ والشعارات كالعداء المطلق لكل أحزاب الطيف الإسلامي. واجتهادها الوحيد هو تبرير التحالف مع النظام القديم على قاعدة تأجيل حل التناقض الثانوي (الاجتماعي) من أجل تجذير التناقض الأصلي (الثقافي).
• فرق أو مجموعات الانتماء القومي العروبي والتي تقيم على فرقتها العضوية، حتى أنها لا تفلح في التحالف مع بعضها داخل الفكرة القومية، وبأسها بينها شديد أبدا.
• أحزاب الإسلام السياسي والتي لا تجاهر بعداء بعضها البعض، إلا أنها ليست على قلب رجل واحد، وهي تعيش معركة إثبات وجودها أمام اليسار والنظام القديم، رغم أنها تشكل العدد الأكبر في الشارع.
• خارج أحزاب الأيديولوجيا نجد أحزابا بأفكار مرنة ولكن قيادات متكلسة. تظهر حراكا مختلفا ومرنا ولكنها مرونة غير منتجة لاجتهادات فعالة وتحالفات كبيرة.
ويأتي في رأس هذه
الاحزاب المرنة حزب المؤتمر وفروعه التى انشقت عنه، والتي تخلت عن الدوقما الأيديولوجية ولكنها وقعت في شخصنة القيادة والزعامة فتفرقت زعامات ووحدانا، ولم تفلح رؤوسها في التلاقي بعد فرقة. بما يجعلها فقيرة في العدد والحلول الفعالة. وإلى هؤلاء يمكن أن نضيف ما تبقى من حزب نجيب الشابي (الاشتراكي التقدمي سابقا الجمهوري لاحقا) حيث مرونة الفكرة والاجتهاد تدور فقط حول زعامة نجيب الشابي وطموحه الرئاسي وتمنع كل اجتهاد خارج هذا الأفق.
• خارج هؤلاء نجذ ذرات متناثرة من الحزيبات الصغيرة تدور كلها حول شخص مؤسسها، ولا تعمل على تحالف تنظيمي أو اجتهاد فكري منتج، وإن أعلنت بحثها عن التحالفات السياسية إلا أنها تبحث عن تعزيز مكانة قادتها بضم جمهور بقية الأحزاب وهو قليل. ولعبة القيادات مكشوفة لبعضهم البعض، بما يجعل حديثهم عن تحالفات نوعا من التعمية على الزعامات العاجزة عن التنازل.
• وهذه العناصر مجتمعة تكشف مشهدا لا يتحرك إلا ليعيد إنتاج نفسه بروح ما قبل الثورة وبروح ما قبل انتخابات 23 أكتوبر 2011.
• خارج هذا المشهد الجامد يوجد حراك الحزب الحاكم سابقا والذي يعود بخطوات ثابتة بدون اسمه الصريح بل في أحزاب متفرعة عنه تعمل بشكل قانوني و تملك قدرات مالية لا يستهان بها، وقادرة على بناء تحالفات انتخابية سريعة قبل الخطوات الأخيرة للوصول إلى الموعد الانتخابي. لكن هذه المجموعات يشقها تناقض كبير بين مجموعتين، هما مجموعة حضر العاصمة ومجموعة أغنياء الساحل. وبين المجموعتين ثارات كان الحزب القديم يدفنها بجبروت القيادة السياسية ويرضي طرفيها بالمغانم المختلفة، فلما انحسر مجال المغنم انفجر الخلاف في أحقية مزعومة في قيادة البلد. لكن الخوف من خسران الانتخابات القادمة (والذي سيؤدي الى انقراض هذا الحزب) يدفع الشقين الآن إلى البحث عن تحالف يؤجل الخلافات ويعيد للمجموعتين مكانتهما في تملك السلطة والمال، لكن لا يظهر من هذا السعي للمتابعين شيء يذكر، بل ربما ظهرت مؤشرات الخلاف القديم.
الولاءات الثقافية سابقة على البراغماتية السياسية
رغم مرارة تجربة الفرقة وحلاوة حالة الاتفاق الوحيدة في تجربة 18 أكتوبر 2005، فإن الثقافي والإيديولوجي يقود بعد علاقة المجموعات الحزبية فيما بينها، كما كان الأمر قبل الثورة، فهي غير قادرة على النزول عن شجرة النقاء الفكري إلى وحل التحالفات المضنية المنتجة للمراجعة الفكرية والتموقع السياسي ضد النظام السابق. لقد عاشت طويلا في صراع حول الأفكار العامة فلما أتيح لها أن تراجع في اتجاه القبول المتبادل ببعضها البعض تهربت من ذلك، وأعادت إنتاج مواقعها الثابتة حول نفس المواضيع. بما شتت كل جهد محتمل في الاقتراب من تحقيق مطالب الثورة الاجتماعية، التي تتبناها مجتمعة وتخونها بالمفرق. ويبدو لي أن هذه المواقف تؤبد بقاءها متفرقة في مواجهة كتل براغماتية من النظام القديم، قادرة على الاستباق والتحالف لأنها متحررة من الفكر التمامي (الأصولي بشقيه اليساري والإسلامي). ولا تبدو مجموعات الحزيبات الأصغر إلا استنساخا من الأحزاب الكبرى، تماريها في الخطاب الاجتماعي وتقلدها في الحرص على الفرقة. ووحدها الأحزاب التي تعلن خطا ليبراليا تبدو غنية ماليا بما يكفي لاستعادة موقعها القديم في بناء خطة التبعية من جديد. إذن ما زال الثقافي الأيديولوجي يقسم الأحزاب التي كانت سابقا منتمية للمعارضة، وضعفها المزمن يمهد الطريق بسهولة فائقة للنظام القديم ليعيد إنتاج نفسه وخطته كما كان، بل بنفس أسماء الذين طردوا ذات يوم من المشهد.
حول النهضة وضدها
في المشهد الذي يوهم بالحركة، يبدو حزب النهضة هو الحزب الأثقل وزنا في الساحة من حيث العدد، لكنه لا يبدو مختلفا عن البقية في الخطاب والممارسة، فلا ملامح لبرنامجه السياسي، ولا خطط معلنة للمستقبل. تسمع أصداء عن الرغبة في الخروج من الحركة الدينية إلى الحزب السياسي، وتسيطر على النقاشات المسموعة منه وحوله وقد بدأت بعض الانشقاقات في صفوفه على خلفية التمايز السياسي عن أساليب العمل التجمعية وعن الحركة الدينية الإخوانية، ورغم حديث الحزب عن قيادة مؤسسة ذات تقاليد، فإن الكثيرين ينظرون إلى الحزب على أنه كتلة انتخابية بلا شخصية، إلا ما يقرره زعيمه، ولذلك تتم مراودة الزعيم على وجوده نفسه مقابل توجيه أصوات حزبه. فبعد تجربة في السلطة وسقوط مدوٍ، عاد الحديث عن حق الإسلاميين في الوجود وليس في المشاركة، وعاد خطاب الاستئصال، وصار التعامل مع النهضويين مقايضة لوجودهم مقابل أصواتهم. ورصيد الذكاء النهضوي يوظف الآن لاستثمار تناقضات الراغبين في منصب الرئيس مقابل ضمان وجود الحزب لاحقا. وفي سير الأحداث نحو عودة النظام يبدو هذا الحزب في وضع المقايضة على وجوده، ليتحول إلى قطيع انتخابي بلا برنامج، ويخرج من حلم القيادة إلى واقع التبعية للعدو القديم، الذي اتيح له أن يصفيه فلم يفعل. وحديث اقتسام السلطة مع الحزب القديم حديث يغري الكثير داخل حزب النهضة بما يخرجه كليا من موقع حزب موال للثورة الى حزب بلا برنامج غير مغانم السلطة.
أحزاب بلا برامج
لم نجد فيما تعلن هذه الأحزاب مجتمعة برنامجا اقتصاديا واجتماعيا يمكن توصيفه بأنه برنامج متوافق مع مطالب الثورة. لقد أقر الجميع بأن الثورة انطلقت من عمق اجتماعي حقيقي أنتجته وقائع التفقير الممنهج عبر منوال تنمية تابع تجلت نتائجه في انخرام التوازن الجهوي والتنموي في مستويات متراكبة، وعجز رهيب عن حل معضلة التشغيل، وخاصة تشغيل الخريجين، واكتفت الحكومات المتعاقبة بعد الثورة بحلول ترقيعية قائمة بالأساس على استنزاف مدخرات الدولة المالية عبر الانتداب في الوظيفة العمومية، أو خلق أشكال تشغيل غير منتجة في شركات ليست ألا تسمية جديدة لعملة الحظائر. لم يفقد الخطاب السياسي هذا المحور/ الموضوع، لكن الخطاب لم يتحول إلى برنامج عملي قابل للتنفيذ، والأحزاب تعيش الآن حيرة حقيقة حول كيفية الخروج من الأزمة البنيوية التي ساهمت جميعها في مفاقمتها. والأفق الظاهر من خلال صمت الأحزاب عن البرنامج الاجتماعي المطلوب من الثورة هو إعادة إنتاج نفس المنوال التنموي الموروث من العهد السابق. فلا حلول في الأفق (البرامج الغائبة) لمشكل عدم التوازن التنموي بين الجهات، ولا تبدو لديها برامج تشغيل فعالة خارج القطاع العام. فضلا على أنها لم تحسن توزيع العائدات المتاحة بحسب الحاجة، بل وقعت في التوزيع بحسب الموقع بما جعل دائرة المستفيدين القدامى نفسها تستفيد من المرحلة على حساب الفئات الأكثر حاجة للتنمية الاجتماعية. كما لا يظهر لديها أي ميل لتنويع مصادر التمويل الخارجي والتحالفات الاقتصادية في السوق العالمية، كالاتجاه إلى آسيا وأمريكا اللاتينية، عوضا عن الارتباط التقليدي بالسوق الأوروبية. وهنا لا يظهر أن هذه الأحزاب مختلفة إلا في التسمية عن نظام التجمع السابق الذي أبدع فقط في إدارة أزمة الانخرام الاجتماعي بالقوة لا بتوخي العدالة الاجتماعية. ويعمل الضغط الخارجي على التجربة كعذر شرعي لكل التراجعات عن خط الثورة.
سيطرة الانتخابي المؤقت على التأسيسي الدائم
مكونات المشهد لا تبدو لي مختلفة عما كان قبل الثورة، وأرى أن الأحزاب في غالبها قد دخلت في حالة صمت استعدادا لانتخابات لا تزال غير يقينية، برغم التنصيص عليها دستوريا، ورغم التقدم البطيء في تأسيس هيئة انتخابية دائمة وقانون انتخابي جديد. يشبه الأمر انكباب طلبة الثانوية العامة (في الشهر الأخير) على الإعداد لامتحان مصيري سيحكم مستقبلهم. وتحت شاغل المؤقت السريع أغفلت الأحزاب الاتصال بشوارعها الانتخابية بما يجنبها في اللحظة الراهنة الإجابة عن سؤال كبير: "ماذا أنتم فاعلون في تحقيق الأهداف الاجتماعية للثورة؟" بل إن خطاب الأزمة يعفيها من التواضع للسؤال الاجتماعي، فتظهر جمل متناثرة في الخطاب عن الصبر وانتظار تغير المعطيات السياسية على الأرض. ويروج بعضها أن ليس بالإمكان أفضل مما كان، بل إن عبارة اجتناب القضايا الكبرى التي أطلقها رئيس الحكومة ستظل ترن في الآذان كجملة محبطة لكل العزائم التي تفاءلت يوما بالثورة.
فوضى الشارع المتحمس للتغيير
يبدو المشهد كما قدمت أعلاه متشائما وسوداويا، وربما يحتاج إلى جرعة تفاؤل تخفف الشعور بالكارثة، والحقيقة أن هناك بصيص أمل في الأفق، لكنه أقرب ما يكون إلى نجم بعيد. بصيص الأمل يلمح في وجود كثير من الأصوات الشابة المشتتة في المواقع الاجتماعية، وتعجز عن التواصل العملي البناء لما بها من عجز مادي يسهل لها عقد اجتماعاتها وتنسيق أفعالها للتحول إلى كتل سياسية موالية للثورة، وذات وزن معادل في سوق الأحزاب، وهي ظاهرة للعيان بما يجعل الأحزاب كبيرها وصغيرها يغازلها كطيور جميلة ومنفردة بلا أسراب. إنها تشتغل الآن كمذكر للنخب الحزبية وللدولة العميقة التي تسد طريق التحول النوعي فتذكر بحصول ثورة ووجود مطالب للثورة، ولكن شتات هذه الأصوات وفقرها المادي يجعلها ضميرا حيا يحلق عاليا ولا يسير على الأرض.
لذلك فالأفق الظاهر الآن هو إعادة إنتاج النظام القديم دون تغيير جذري، ولن يزيد حضور وجوه النظام القديم في المشهد إلا تلويثا لملوث نفض عنه الغبار قليلا، لكن عجز الزعامات الحزبية التي تزعم الوطنية والانتماء للثورة عن الخروج من قواقعها القديمة والاقتراب من الشارع ومن مطالبه المشروعة يعمل ضدها وضد الزمن الثوري الذي يظهر علامات استسلام قاتلة.
في واقع الاستسلام يعود الحديث عن المعجزة.