في عامي 2011 و2012، ومع دخول "الثورة السورية" عامها الثالث، وتدهور النشاط المصرفي، وانهيار سعر صرف الليرة الذي تجاوز مقابل الدولار الـ 300 ليرة، مقارنة بـ 47 ليرة قبل الثورة، كان معظم السوريين قد سحبوا ودائعهم بالليرة وبالعملات الأجنبية من المصارف العاملة في البلاد وتم تحويلها إلى دولار وتهريبها إلى البلدان المجاورة.
ولكن في النصف الثاني من العام 2013، وبعد سيطرة نظام الرئيس بشار الأسد على القطاع المصرفي مستفيداً من الدعم الإيراني – الروسي، المالي والاقتصادي والعسكري، والتقدم الميداني في مدينة القصير ومنطقة القلمون، سجلت
الليرة السورية تحسناً كبيراً، ويتراوح سعر صرفها حالياً مقابل الدولار بين 145 الى 160 ليرة.
وفي ظل نشوة الانتصار، واستعداد النظام للتجديد لانتخاب الرئيس بشار الأسد لولاية جديدة في يوليو/ تموز المقبل، بدأت الدوائر المالية والمصرفية محاولات لحل سلسلة مشاكل معقدة يواجهها القطاع المصرفي، لتمكينه من الاستمرار في العمل ولو في الحدود الدنيا من الجهود التي تطمئن المستثمرين ورجال الأعمال، لاستعادة ثقتهم بالنظام وبالإجراءات المالية والمصرفية لحماية أموالهم ومدخراتهم.
الديون المتعثرة
تعاني المصارف العاملة في
سوريا من أزمة حادة بعد انخفاض سيولتها وتفاقم نسبة القروض المتعثرة والمحتجزة لدى أفراد أو شركات، امتنعت عن السداد لأسباب
اقتصادية أو سياسية.
وتشير تقارير إلى أن نسبة كبيرة من القروض المتعثرة تعود إلى رجال أعمال سوريين مقيمين في الخارج، ويمارسون أعمالهم الاستثمارية بنجاح، لكنهم يمتنعون عن سداد القروض المستحقة عليهم، ولا يقتصر الأمر على رجال الأعمال المعارضين للنظام السوري أو المنشقين عنه، بل ينطبق أيضا ذلك بصورة اكبر على رجال أعمال معروفين بتأييدهم ودعمهم للنظام.
أما بالنسبة للبنوك التي تواجه مشكلة الديون المتعثرة، فقد أفادت معلومات تستند إلى تقارير للبنك المركزي السوري، أن خمسة مصارف كبيرة تابعة للقطاع العام، تواجه ديونا متعثرة تبلغ قيمتها 34 مليار ليرة سورية، وعلى أساس سعر الدولار بـ 150 ليرة، تساوي نحو 227 مليون دولار، وهي موزعة على الشكل الآتي: المصرف العقاري 8 مليارات ليرة، المصرف التجاري 12 مليار ليرة، المصرف الصناعي 7 مليارات ليرة، المصرف الشعبي 4 مليارات، مصرف التوفير 3 مليارات.
وفي محاولة من النظام لحل هذه المشكلة، أصدر الرئيس بشار الأسد في مطلع شباط/ فبراير الماضي المرسوم التشريعي رقم 8 للعام 2014، والقاضي بإعادة جدولة القروض والتسهيلات الممنوحة لأصحاب الفعاليات الاقتصادية للمشاريع السياحية أو الصناعية أو التجارية أو الخدمية أو الحرفية، أو غيرها من الفعاليات الاقتصادية الأخرى، المتأخرين عن سداد التزاماتهم تجاه المصارف العامة (أي المملوكة من الدولة) حتى وقت صدور المرسوم.
ويتم الإعفاء من كامل فوائد التأخير والغرامات غير المسددة فقط لغاية تاريخ توقيع الجدولة، شريطة التأكد من توفر الضمانات وكفايتها وقدرة المدينين على السداد وعلى مسؤولية إدارة المصرف المعني.
ولكن يرى بعض خبراء المال والاقتصاد ان هذا المرسوم وما يقدمه من إعفاءات لا يشكل حافزاً لأصحاب الديون المتعثرة للإقدام على سداد ديونهم، لان مشكلتهم متعلقة بالتضخم النقدي الذي لحق بالليرة السورية جراء تدهور سعر صرفها مقابل العملات الأجنبية.
وفي حال خسارة الليرة من قيمتها تجاوزت 140 % منذ اندلاع الثورة عام 2011، فان التضخم سيأكل من كتلة الإيداع أضعاف ما يمكن ان يعوض سعر الفائدة الذي لا يتجاوز 11 % مع الإشارة إلى أن حجم الإقراض زاد عن الإيداعات لدى بعض المصارف قبل اندلاع الثورة، حتى تجاوز رأسمال هذه المصارف والاحتياطي الإلزامي المودع في البنك المركزي، كضمان لاستعادة الودائع في حالات الطوارئ.
إضافة إلى ذلك فان مرسوم الإعفاء يشمل فقط الديون المتعثرة لدى المصارف العامة أي المملوكة للدولة، وهي ضئيلة جداً، مقارنة مع القروض المتعثرة لدى المصارف الخاصة والتي لا يشملها المرسوم، وقدرتها مصادر مصرفية بنحو 10 % من إجمالي قروضها، وبما يزيد عن 250 مليار ليرة (نحو 1.66 مليار دولار)، وبذلك يكون مجموع الديون المتعثرة نحو 1.89 مليار دولار.
خسائر ... وأرباح
قبل اندلاع الثورة، كانت قيمة أصول المصارف الحكومية والخاصة في سوريا تقدر بنحو 43 مليار دولار، وهو مبلغ ضئيل جداً مقارنة ببعض البلدان المجاورة، ومنها لبنان الذي كان حجم أصول مصارفه يتجاوز الـ 120 مليار دولار في العام 2011، وقد ارتفع إلى نحو 150 ملياراً بنهاية العام 2013.
لكن المصارف اللبنانية والخليجية التي دخلت القطاع المصرفي السوري في السنوات الأخيرة قبل اندلاع الثورة، كانت تعتبر سوريا بلداً واعداً للمستثمرين ورجال الأعمال العرب، وهم يتطلعون إلى حركة استثمارية كبيرة ومشاريع سياحية وصناعية ضخمة، تأخذ بالاعتبار موقعها الجغرافي على البحر المتوسط وطرق العبور الى منطقة الخليج والعراق وايران.
ويقول مراسل وكالة الأناضول إنه مع اندلاع الثورة وتدهور الوضع المصرفي والمالي والاقتصادي، انعكس ذلك ضرراً على المصارف، وكانت المصارف التي يساهم فيها مستثمرون خليجيون، الأكثر ضرراً، من الديون المتعثرة، عكس المصارف اللبنانية التي كانت أكثر مرونة لما لديها من قاعدة عملاء جيدة، وهي تتعامل معها منذ مدة طويلة.
وعلى الرغم من ذلك، فقد اعترف حاكم مصرف لبنان رياض سلامة ان المصارف اللبنانية في سوريا قد خسرت 400 مليون دولار في فترة السنة الأولى من الأزمة، ولكن الخسارة تراجعت في السنة الثانية، أما في السنة الثالثة، فقد أشارت مصادر مصرفية إلى أن هذه المصارف حققت زيادة في ودائع عملائها في سنة كاملة بين منتصف العام 2012 ومنتصف 2013، تجاوزت 3.2 مليار دولار.
وأوضحت المصادر في تصريحات لمراسل وكالة الأناضول أن هذه الأرقام لا تعكس أرباحا حقيقية، بل هي ناتجة عن فرق سعر صرف العملة السورية مقابل العملات الأجنبية، خصوصاً وانه لا يحق لغير السوريين الاكتتاب بأكثر من 49 % من رأس المال المقرر حسب القانون المصرفي السوري، والباقي يجب أن يكون بالعملة السورية.
ووفق إحصاءات مصرف لبنان المركزي حصل عليها وكالة الأناضول، بلغ حجم صافي التسليفات التي قدمتها المصارف اللبنانية إلى التجار والمستثمرين السوريين نحو 830 مليون دولار في نهاية سبتمبر/أيلول الماضي بعد خصم الأموال المستحقة عليها وهي تنقسم إلى قسمين، الأول ويتعلق بالتسليفات التي قدمتها المصارف اللبنانية العاملة في سوريا، وقد بلغت نحو 350 مليون دولار، وهي تشمل كل التسليفات بما فيها الممنوحة قبل اندلاع الثورة السورية في مارس/ آذار2011، أما القسم الثاني، فهو يعود إلى التسليفات التي قدمتها المصارف العاملة في لبنان وتبلغ نحو 480 مليون دولار.
كل هذه التسليفات وخصوصاً التي منحت خلال فترة الثورة، خضعت لرقابة مشددة من قبل مصرف لبنان ولجنة الرقابة على المصارف، لجهة تطبيق العقوبات الدولية والأمريكية والأوروبية بحق الشخصيات السورية العسكرية والمدنية، وحظر التعامل معها.
وقامت المصارف التجارية المعنية بالتحقق من وضع عملائها وسلامة معاملاتهم المصرفية والمالية، وكذلك بإجراء اختبارات ضغط متكررة لتكوين مؤونات عامة وخاصة مبنية على فرضيات قاسية.
وبعد أكثر من ثلاث سنوات على بدء الثورة في سورية والمفتوحة على استمرار الخيار العسكري وسيلة للمواجهة بين طرفي النزاع، تبقى مصارف لبنان السبعة العاملة هناك منذ العام 2004، تحت مجهر المراقبة والمتابعة، حرصاً من السلطات النقدية اللبنانية على ضمان الاستمرار وتطويقاً للخسائر.
تمويل الأعمار
لقد بدأ القطاع المصرفي اللبناني وبمباركة من مصرف لبنان، منذ نحو عشر سنوات، خطوات انتشاره في السوق السورية الواعدة والتي نجحت في جذب سبعة مصارف من اكبر المصارف العاملة في لبنان، وفي فترة قصيرة نسبياً، نجحت هذه المصارف في تثبيت حصتها في سوق بقيت مقفلة نحو 40 سنة، قبل ان يبادر الرئيس السوري بشار الأسد إلى فتحها أمام الاستثمار الأجنبي منذ العام 2000.
ووفق أرقام الفصل الأول من 2011، أي وقت انطلاقة الثورة، بلغت حصتها من إجمالي الموجودات المصرفية في سوريا نحو 17%، فيما تجاوزت حصتها من الودائع والقروض 22 % لكل منها، أما في حال مقارنتها بالمصارف الخاصة وحدها، فان المصارف اللبنانية شكلت 60 % من الأصول المصرفية السورية و70 % من الودائع و 57 % من القروض.
ورغم ذلك، لا تمثل أصول المصارف اللبنانية في سوريا سوى نسبة 10 % من الميزانيات المجمعة للمصارف اللبنانية العاملة في لبنان والخارج.
ويبدو أن المصارف اللبنانية بشكل خاص والعربية بشكل عام، لا تزال تعتبر سوريا بلداً واعداً للمستثمرين ورجال الأعمال العرب، وهي تواكب باهتمام بالغ التطورات الأمنية والسياسية والمالية والاقتصادية، وتنتظر بفارغ الصبر انتهاء الحرب ووقف القتال، وبدء مسيرة الإعمار التي تقدر تكاليفها بنحو 160 مليار دولار وفق تقارير الأمم المتحدة، من أجل المشاركة في تمويلها، خصوصاً وأن مثل هذا التمويل الكبير لا بد من أن يتم بمشاركة عربية من صناديق تنمية وحكومات ومصارف خاصة فضلاً عن حشد من المستثمرين العرب.