مقالات مختارة

اللغــة المغــدورة

1300x600
كان الكلام جرحا، وكانت اللغة وسيلة للتواصل والصراع والاحتكام الى المنطق. هكذا عشنا علاقتنا باللغة، نقرأ، نكتب، نستمع ونحكي، كي نشعر أننا نعيش. فالحياة تتدفق في مسام اللغة، وتستوطن الأحرف والأصوات، وتجعل من الكلام وسيلة الوصل والتواصل والوصال.

لكننا منذ أن اكتشفنا أننا غُدرنا، وأن التضحيات الهائلة التي قدمها ويقدمها الشعب السوري مهددة بأن تذهب إهدارا، وأن هذه المأساة السورية، التي هي المأساة الأكبر في تاريخ العرب المعاصر، طُعنت، ونحن نتساءل عن جدوى الكلمات.

إنها الثورة المغدورة، لا يعقل ان ننتقل خلال ثلاث سنوات من عرس الدم الشعبي السوري، الذي أشعل واحدة من أكبر الإنتفاضات الشعبية في تاريخنا، الى هذا العهر الذي يحول الدم السوري المسفوك الى ممسحة تحت أقدام الطغاة.

وحين ينجح الغدر واللامبالاة والعجز، فإن اللغة تكون الضحية الثانية، فينفد الكلام وتتحطم القيم، ويتلاشى المعنى.
لا أدري بالضبط ماذا يجري على الأرض السورية، فأخبار المعارك متناقضة. هل سقطت يبرود أم سُلمت؟ هل تداعت قلعة الحصن أم غُدر بها؟ من يقاتل وكيف؟

لكن ما أعرفه هو أن هناك كذبة بدأت تروج، وهي أن الصراع في سوريا بدأ كصراع بين الأصولية والنظام، وان الثورة كانت خطأ لأن المتظاهرين خرجوا من الجوامع، وان المآل الذي وصلت إليه عبر تحولها الى صراع بين تيارات أصولية متعسكرة من جهة وبين النظام الإستبدادي المتحالف مع أصولية متعسكرة أخرى من جهة ثانية، كان حتميا.

هذه الكذبة التي تدّعي البراءة، لا علاقة لها بالبراءة، عدا عن أن ادعاء البراءة عند بعض المثقفين، الذين يرتجفون هلعا من الناس، لا يستحق سوى الإزدراء.

كلا، فالمسار الذي وصلت إليه الثورة السورية لم يكن حتميا، وليس نتاج عدم نضج الشعب السوري للديمقراطية، بل هو نتيجة تضافر مجموعة من العوامل لها اسم واحد هو الغدر.

لن أتوقف عند غدر الغرب بالثورة، فالذي كان يعوّل على الدعم الأمريكي إما جاهل وإما أحمق، فالإمبراطورية الأمريكية لم تكن يوما معنية بتحرر الشعوب، بل على العكس كانت معنية بإذلالها وتحطيم إرادتها، وخصوصا في المشرق العربي حيث تتقاطع المصلحة الأمريكية بالمصلحة الإسرائيلية الى حدود التطابق. أما القارة الأوروبية العجوز، فهي عجوز لا تتصابى إلا على الحنين الى زمن الكولونيالية البائد، ولا يعنيها من أمرنا سوى إثبات أن الإستقلال الوطني عطّل مهماتها من أجل إدخال الحضارة الى الشعوب المتخلفة والبربرية.

بل سأتوقف عند غدرين:
الغدر الأول هو الوهم الذي استحوذ على عقول البعض من أن التدخل الخارجي قادم لا محالة، وأن النموذج الليبي سوف يتكرر في سوريا، وهو وهم قاد الى وهن قيادات المعارضة، والى عدم أخذها مسألة الثورة باعتبارها نضالا سوريا بجدية، إن على مستوى التنظيم أو على مستوى صوغ البرامج السياسية الواضحة، وأدخلها في صراعات بلا طائل، جعلها في النهاية مستتبعة للنظام الخليجي العربي، الذي لم ير في الثورة سوى وسيلة للإنتقام من النفوذ الإيراني المتعاظم.

هذا الوهم لم يكن خطأ سياسيا عارضا، بل كان غدرا بكل ما تحمله الكلمة من معنى، لأنه أدخل النضال الشعبي في توقعات أصابته بخيبات أمل متتالية، ما سمح بانهيار المبادرات الشعبية التي صنعت تجارب التنسيقيات ومن بعدها بداية تجربة الجيش الحر.

الغدر الثاني هو الغدر الإقليمي، العربي والتركي، الذي كانت وعوده بالدعم مجرد هباء، لأنه لا يجرؤ على تجاوز السقف الأمريكي من جهة، ولأنه كان معنيا بالتسلل الى الثورة وشق صفوفها وكسر حلمها الديمقراطي، عبر بناء قوى عسكرية أصولية ما لبثت أن حطمت تجربة الجيش الحر، وحولته الى شراذم، نجح النظام الإستبدادي في استغلالها عبر استخدام خبرته مع الأصوليين والقاعدة في العراق.

هذان الغدران ما كانا ليتخذا هذا الشكل المحزن لولا عدم فهم النخب العلمانية واليسارية والليبرالية لدورها في مرحلة تحول الثورة السلمية الى انتفاضة مسلحة، بحيث صار عدم الفهم هذا شكلا ثالثا من أشكال الغدر.

لم يتم اللجوء الى السلاح عبر قرار، بل كان ردة فعل شعبية تلقائية على وحشية آلة القمع. هذه هي حقيقة بدايات اللجوء الى السلاح، وكل كلام آخر لا يرى سوى المؤامرة لا هدف له سوى تشويه النضال الشعبي السوري. لكن غياب هذه النخب بشكل محزن عن الإنتفاضة المسلحة، شكل ثغرة كبيرة تسللت من خلالها الأصوليات الخليجية والقاعدية، كي تستولي بشكل شبه كامل على العمل المسلح، وتبدأ في فرض أجنداتها المختلفة.

قد نجد تبريرات شتى لهذا القصور، كأن نقول بأن أربعة عقود من القمع كانت كفيلة بتحطيم كل أشكال التنظيم السياسي المستقل، أو نقول أن هول القمع الذي مارسه نظام الإستخبارات كان شديدا الى درجة أنه منع تبلور أي أشكال تنظيمية، او نقول إن نواة الجيش الحر وجدت نفسها بلا مساعدات مالية او تسليحية، وكلها تبريرات صحيحة نسبيا، لكنها ليست كافية. إذ يجب الإعتراف بأن مناخ اليسار الذي أحدث نقلة نوعية عبر تبنيه لقيم الحرية السياسية الليبرالية، يحتاج الى إعادة بناء جذرية، عبر التحرر من أسار واقع يسوده التغرغر بالكلمات وينحي الممارسة جانبا، وليس مستعدا لمغادرة مواقع الطبقة الوسطى وقيم ثقافية جديدة لا تجد لنفسها مكانا سوى في عمل صار ميدانه الأساسي هو مواقع التواصل الإجتماعي، بعد انهيار عمل التنسيقيات تحت ضراوة القمع.

هذا اليسار الليبرالي، او هذه اليسارية الليبرالية عليها اليوم قبل الغد تغيير موقعها من الصراع، وتحديد خطابها المناهض للتدخل الخارجي سواء أكان إيرانيا او روسيا او ميليشاويا او خليجيا او أمريكيا او إسرائيليا.

كما أن الدعوات المشبوهة للتحالف مع إسرائيل التي تدفع إليها السياسة الأمريكية الفعلية، يجب أن تدان وتطرد، لأن هذه الخيانة الموصوفة ليست الا دعوة الى الإنتحار.

وسط هذا الغدر كله، لا بد من تأكيد المؤكد:
لا رجعة الى الوراء، لأننا لن نجد في الوراء سوى الموت.
ولا إمكانية لاستمرار السلالة الأسدية في السلطة مهما جرى.
على هذين المؤكدين يجب إعادة البناء بلغتنا التي صارت تشبه الصمت، وفي هذا الطريق الطويل المفروش بالدم والدمار والدموع. 

(عن القدس العربي 25 آذار/ مارس 2014)
الأكثر قراءة اليوم
الأكثر قراءة في أسبوع