ما ذلك الشيء العجيب الذي يدفع البعض لأن يحشد أطفالا لا يبدو أن أكبرهم قد تجاوز الثامنة ويجعلهم يقفون صفا ويضعون
جزمة عسكرية فوق رؤوسهم الصغيرة.. يحشد هؤلاء الصغار ثم يطلب منهم الابتسام لالتقاط صورة لهم إلى جانب صور «أسد
مصر، المشير عبد الفتاح
السيسي»، على حد ما قال كلام الملصقات التي رفعت قربهم ومن ثم بث مشهدهم البائس هذا ليطوف العالم!
لماذا أريد لتلك الصورة أن تظهر..
هل باتت الجزمة العسكرية «أيقونة» المرحلة ودرة الغد لتوضع فوق رؤوس الصغار!! لقد رأينا قبلا من تمنطق بها حول خصره ورقبته، ومن قبلها وعانقها بحرارة، ومن حملها ورقص بها، والآن توضع فوق أطفال، بالكاد يفوق طول بعضهم طول الجزمة نفسها..
ما يجري في مصر هو بالحد الأدنى هذيان وهلوسة..
نعم، هناك مخاوف أمنية جدية ومحقة وخطيرة، لكن ليس بهذه الخفة يمكن الجزم بهوية مستهدفي مصر على نحو ما يجري تعميمه عبر طبقة من سياسيين وناشطين طارئين وإعلاميين، لعلهم الأسوأ والأكثر إسفافا في تاريخ مصر. ما هذا الهراء الذي يصدر عن البعض لساعات طوال على الشاشات، سواء أكانت الرسمية أم الخاصة!
في مصر، هناك من يجهد لتكثيف الشعور بالخوف لدى العامة..
«لا حياد ولا موضوعية مع الإرهاب» شعار فارغ، جعل من السهل خلق توهمات وتمرير الأكاذيب والهلوسة، فبات يظهر معلقون وسياسيون ليتحدثوا بأقذع الألفاظ وبأكثر السيناريوهات غرائبية وهزالا، فيجمعون على أن هناك مؤامرة كونية كبرى وأن لا حل لمواجهتها والخلاص من ذيولها من الإخوان المسلمين سوى بجزمة الجيش. بات من الطبيعي أن يهدد سياسيون وإعلاميون بذبح وقتل «المتآمرين» المزعومين.
يجري بسهولة وبتفاهة أيضا التسويق لمقولة أن لا مساحة الآن للانتقاد وأن الخطر الداهم يبرر كل هذا العسف المرتكب، فيسجن عشرون صحافيا من قناة «الجزيرة»؛ من بينهم غربيون، بذريعة تلك المؤامرة التي لم يفقه أحد كنهها بعد.. بذريعة مكافحة الإرهاب، يزج الإخوان المسلمون وناشطون ليبراليون ويساريون وأكاديميون وإعلاميون زرافات ووحدانا إلى السجن.. بالأمس، ظهر خبر أن رجلا قدم بلاغا ضد زوجته واتهمها بالتعامل مع جماعة الإخوان المحظورة، ودليل الرجل هو صورة لزوجته في لندن وهي تبتسم وترفع كفها بإشارة رابعة الشهيرة..
كل المنظمات الحقوقية الدولية المعروفة ومعظم الإعلام الغربي والعالمي المستقل يكتب عن الواقع التعسفي الحاصل في مصر. صحف مثل «نيويورك تايمز» تكتب مقالات من نوع «الكارثة المصرية»، في محاولة لشرح وفهم الواقع الحاصل هناك. كيف يجابه ذلك، بالقول إنه يندرج تحت إطار المؤامرة..
يطالعنا صحافيون وكتاب بتحقيقات ومقالات تبرر كل ما يرتكب اليوم، ويسخرون منا نحن من نعيش خارج مصر ونراقب بذهول وحسرة ما يحصل فيها بأننا لا نفقه شيئا وأننا لا نفهم كم هناك حاجة لأن تفعل المؤسسة العسكرية ما ترتكبه.. إنها حقبة قمع قاسية تلك التي تعيشها مصر، ولا شيء يبرر أن نمحو
عقول أطفالنا ومستقبلهم ونضع فيها جزمة لا دور لها سوى الدوس على أحلامهم وعلى حقوقهم في الوقت عينه..
(الشرق الاوسط)