أيام قليلة وتكون
مصر أمام اختبار شديد الحساسية والخطورة ، وهو استحقاق الاستفتاء على الدستور الجديد الذي تم إعداده بعد الإطاحة بحكم الإخوان المسلمين ، وبدون كثير جدل أو نقاش حول تفاصيل مواد الدستور والإيجابي فيها والسلبي ، فالحكاية كلها تتمحور حول الشكل أكثر من المضمون ، والمعركة كلها تدور حول تدشين مشروعية جديدة للنظام السياسي الجديد الذي تقوده المؤسسة العسكرية أو منع تشكل هذه المشروعية.
فأنصار تمرير الدستور يعتبرون أنه اللحظة الحاسمة لإنهاء كابوس شرعية الرئيس المعزول محمد مرسي الذي ما زال يضغط ويحرج السلطات الجديدة خاصة أمام العالم الخارجي ، باعتبار أن الموافقة على الدستور الجديد تعني نسخا لكل ما قبله والتصديق على كل الإجراءات التي تمت ، سواء بعزل مرسي أو حل مجلس الشورى أو الإعلان الدستوري المؤقت أو تنصيب الرئيس المؤقت وحكومته.
والرافضون للدستور الجديد أيضا يقاتلون من أجل منع تشكل هذا الواقع الجديد ، واقع الشرعية الجديدة ، ولذلك أعتقد أن أي حديث عن مواد الدستور هو إهدار للوقت ، فلا يوجد أي خلاف جوهري بينه وبين دستور مرسي ، وأحيانا كانت لجنة الخمسين تتدخل لتعديل كلمة أو فاصلة أو نقطة في مادة من مواد الدستور السابق ، فقط لمجرد إثبات أنهم أنجزوا شيئا جديدا أو عدلوا ما قد سبق ، وهناك بعض المواد كان التعديل فيها أفضل من دستور مرسي ، وهناك مواد كان دستور مرسي فيها أفضل من التعديل الحالي كما هو الحال في صلاحيات رئيس الجمهورية وفي ما يتعلق بالمؤسسة العسكرية بشكل خاص .
في تقديري أن الاستفتاء المقبل سيمر ، وإن كنت أتمنى أن لا يكون محفوفا بدم طاهر لأبناء الوطن ، سواء كانوا من الشعب أو الشرطة أو الجيش ، لأن أجواء الشحن والتشنج والتوتر عند كل الأطراف مقلقة جدا بالفعل ، ولكن التحدي الأكبر في تمرير الدستور يتمحور عند نقطتين أساسيتين ، الأولى في النسبة التي يمكن أن يمر بها ، والنقطة الثانية في درجة الشفافية التي سيمر بها والتي تقنع المجتمع الدولي والرأي العام المصري بأنه كان استحقاقا انتخابيا نزيها وشفافا.
بالنسبة للنقطة الأولى من الناحية النظرية البحتة فإن تصويت 50% زائد مواطن واحد فقط يسمح للدستور بأن يولد من الناحية القانونية والدستورية ، ولكن هذه النتيجة أو ما يقاربها لن تحقق الهدف الأساس من الدستور الجديد ، وهو ميلاد شرعية تنسخ الشرعية السابقة وتثبت أن الانحياز الشعبي لما حدث كان حاسما وضخما بالفعل ، لأن دستور مرسي نجح بنسبة 64% وشارك فيه ما نسبته 34% من الناخبين ، أي حوالي سبعة عشر مليون مواطن يحق لهم التصويت.
وبالتالي فعندما تريد أن تنسخ هذه الشرعية التي تقول أنك أطحت بها بناء على رغبة شعبية جارفة فإن المنطق يقول أنك تحتاج إلى تجاوز هذه النسب بشكل حاسم وظاهر ومقنع ، ولذلك يردد أنصار الفريق السيسي دائما أن الموافقة ستكون بنسبة 75% إلى 80% وقد تكرر هذا الرقم كثيرا عبر أصوات شخصيات لها حيثية ، مثل قضاة كبار وقادة أمنيين ووزراء ، وهو ما يعطي مؤشرا غير جيد على شفافية الاستفتاء ، لكنه يمكن أن يفهم على أنه نوع من الطموح والتوقع المبالغ فيه ، وبشكل عام إذا حصل الاستفتاء على نسبة موافقة أقل من 70% .
فهذا يعني أن شرعية النظام الجديد ستكون مشروخة وغير مقنعة وتشكك في سند الإرادة الشعبية التي أطاحت بحكم مرسي ، خاصة بعد الحملات الضخمة التي تحدثت عن الموجات الشعبية الكاسحة لتأييد الدستور وعشرات الملايين الذين يؤيدون الفريق السيسي ، أيضا لا تكفي نسبة الموافقة فقط ، بل إن نسبة الحضور والتصويت في حد ذاتها ستكون حاسمة في تدشين هذه الشرعية ، لأن الدستور الجديد مطالب بأن يتخطى حاجز الثمانية عشر مليون مشارك بقدر حاسم ومقنع أيضا فإذا أتت النتائج بعدد المصوتين أقل من هذا الرقم أو يقاربه فإن هذا سيكون خصما من شرعية النظام الجديد بكل تأكيد.
وهذا ما يفسر درجة التوتر والعصبية التي يتم بها الحشد للمشاركة في التصويت للدستور الجديد . هذا بالنسبة للنقطة الأولى ، وأما بالنسبة للنقطة الثانية فهي ما يتعلق بالشفافية في إنجاز هذه العملية ، وقد ثارت شبهات كثيرة واتهامات عديدة ووساوس في الداخل والخارج خاصة بعد صدور بعض القرارات التي لها رمزية معينة ، مثل السماح للناخبين بالتصويت خارج مقار لجانهم الانتخابية الأساسية ، بدون وجود أي ضمانات لعدم تكرار التصويت للشخص الواحد ، الذي يستطيع أن يتجول في اليومين على أكثر من لجنة ، خاصة وأن نوعيات الحبر الفوسفوري رديئة جدا وكانت تختفي خلال ساعات قليلة بسهولة ، ولا يوجد أي ضمانات أخرى لمعرفة تكرار تصويت الشخص.
فلا يوجد قاعدة ربط الكتروني بين اللجان ولا أي وسيلة أخرى ، ووصل الحال ببعض القضاة إلى اقتراح أن يتم خرم بطاقات الهوية عند التصويت والبعض الآخر اقترح سحب البطاقات من المصوتين وتسليمها لهم بعد انتهاء التصويت ، وكل ذلك أفكار شاذة ولكنها تكشف مستوى القلق والشك ، وأيضا إعلان اللجنة العليا للانتخابات عن حظر إعلان نتائج اللجان الفرعية ، وأن يكون الإعلان من طرفها هي فقط ، وكان إعلان نتائج الفرز في كل لجنة فرعية بذاتها أعظم أدلة الشفافية للانتخابات ، وهو ما تم منعه الآن ، وأما الرقابة المحلية والأجنبية فهي شكلية أكثر منها جدية ، فلا يوجد خمسة وثلاثون ألف مراقب محلي ودولي للمراقبة ، فضلا عن ترامي اللجان في أقصى الصعيد وأعماق الريف ووسط حالة من التوتر والتشنج الأمني المثيرة للقلق ، أيضا ستكون النسبة المعلنة سواء للتصويت أو الموافقة لها دلالتها على مستوى الشفافية ، فأرقام زمان عن الـ 90% وما فوقها إذا أعيد انتاجها الآن فلن تقنع أحدا بها لا في الداخل ولا الخارج.
وعموما سيكون هذا التحدي ، تحدي الشفافية ، بالغ الأهمية في تدشين الشرعية الدستورية الجديدة من عدمها ، ويبقى كل ما طرح مجرد وساوس وتساؤلات ، ولكن الحقيقة ومعالمها سيراها العالم كله مع مغيب يوم 15 يناير المقبل .
(المصريون)