فجأة قرر «
حزب الله» أن من الضروري أن تتشكل
حكومة في
لبنان، قافزاً فوق شرط أن يكون له فيها الثلث المعطل، أو ملتفاً على هذا الشرط بقبوله ثلثاً غير معطل نظرياً لكنه معطل عملياً. اذاً الحكومة تشكل حاجة لـ «حزب الله»، وهي حاجة تبدو مُلحّة، ووظيفتها على الأرجح تصريف حاجات الحزب المستجدة بفعل قتاله في سورية.
لبنان طبعاً خارج حسابات «حزب الله» بالإطلاق. فالوظيفة الاقليمية المنوطة بالحزب لا تقيم وزناً لأية حسابات لبنانية. القتال في سورية كان القرينة الأخيرة على هذه الحقيقة، ذاك أنه ألغى الفكرة التي قام على أساسها لبنان، والمتمثلة باستقلال جماعاته عن عمقها الطائفي وانخراطها في تجربة مختلفة تؤسس لمستوى آخر من العلاقات الاجتماعية والطائفية والاقتصادية. وبحربه في سورية، دغم
الحزب الجماعات الأهلية مجدداً في أعماقها غير اللبنانية، متسبباً بانحلال فكرة لبنان، وها نحن اليوم نتخبط بما تبقى من هذه الفكرة.
لكن فجأة قرر «حزب الله» أن من الضروري أن تكون في لبنان حكومة، وأن يتشارك مع تيار «المستقبل» و «القوات اللبنانية» في هذه الحكومة! وانبثقت رغبة الحزب في لحظة اقتراب مؤتمر «جنيف 2»، وجاءت مترافقة مع مفاوضات وتسويات أميركية- ايرانية، ومع بدء المعارضة السورية حملة عسكرية على جماعة «داعش»، وفي آخر المرفقات، تعرض قاعدته الاجتماعية لاستهدافات دموية.
وباستثناء الشرط الأخير، لا يبدو لبنان حساباً في قرار الحزب تقديم تنازل في موضوع تشكيل الحكومة.
والحال أن استجابة أطراف النزاع في لبنان لقرار الحزب تبدو قليلة السياسة اذا ما كانت الأخيرة تنازعاً على الممكن وتصريفاً للحاجات وفق تقدير حاجات الخصم. فالجلوس مع الحزب في حكومة واحدة يعني منحه غطاء حكومياً للقتال في سورية، وهو يعني، ما لم يكن جزءاً من عملية المفاوضة، ان الأطراف المتنازعة وافقت على الوظيفة غير اللبنانية للبنان عموماً، وبالتالي وافقت على إلغاء لبنان والانخراط في ورشة اعادة رسم المنطقة بأكملها وفق نتائج النزاع في سورية وفي العراق، وتالياً في لبنان.
يُلوّح الحزب لخصومه بالعصا الأمنية فيلقى استجابات متفاوتة. يُسرب أن حكومة حيادية ستُواجه بما هو أكثر من 7 أيار فينشق حزب الكتائب عن قرار 14 آذار في الامتناع عن مشاركة الحزب بحكومة تغطي تدخله في سورية، ويلين تيار «المستقبل» فينتقل من شرطه انسحاب الحزب من سورية الى النقاش في بيان وزاري يتضمن عبارة حياد لبنان عن النزاع في سورية.
يُتقن «حزب الله» اللعب على وتر خوف الفرقاء من حملاته «التأديبية». يعرف مثلاً أن وليد جنبلاط يُمثل ذروة هذا الخوف، فيوظفه مفاوضاً عنه ومُسوّقاً لصيغه الحكومية، وأن نبيه بري يجيد لعبة المسافة عندما يُشيع أنه «متذمر» من قتال الحزب في سورية، فيقدمه صورة عن الفريق كله. وبما أن العصا الأمنية في خلفية كل هذه الخيوط الواهية، فإن التفاوض يخلو من السياسة ومن حساباتها. فإذا كان الاختناق الاقليمي دافع الحزب لتشكيل الحكومة، فإن استثمار الخصوم هذا الاختناق في المفاوضة سيُواجه بالعصا الأمنية. «7 أيار» لن تستثني هذه المرة القصر الحكومي.
هذا ما سرّبه مصدر في «8 آذار» لإحدى صحف «8 آذار». وهو ما يهمس به وليد جنبلاط عندما يُواجه بصد لطلبه قبول الصيغ الحكومية التي يقبل بها «حزب الله». ومن المرجح أن ينجح الحزب في دفع خصومه للقبول. لكن السؤال هو: هل بقي من لبنان ما يمكن أن يُساعد الحزب في الخروج من اختناقه الاقليمي؟ فالتسويات الكبرى لن تشمله، والوقيعة بينه وبين مجتمعات المنطقة ما عاد من الممكن تسويتها، وحسابات البيدر ستطيح حسابات الحقل. فقد سجل الحزب انتصاراً هائلاً في مدينة القصير، عوّض به خسارتنا القدس، لكن ماذا بعد هذا الانتصار باستثناء الفرقة التي أحدثها؟ وها هو يُقاتل على مشارف حلب، ويتقدم فـ «يُحرر» مدرسة ثم ينسحب منها ليعود و «يُحررها»، مرسلاً قتلاه بصمت الى قراهم، فكيف له أن يُوظف ذلك؟ وكيف لحكومة لبنانية مهما كان شكلها أن تُسعفه؟ الصدع صار أكبر من أن تلحمه أطراف لبنانية.
لا مكان لـ «حزب الله» في «جنيف 2». ايران تبحث عن كرسي لها فيه، ويبدو أن تسويات بدأت تلوح، وأوراق بدأت تظهر، والكبار وحدهم من يتولون إدارة التسوية، فيما الأوراق تلحظ الحزب على نحو ما تلحظ «داعش» و «النصرة» وفي أحسن الأحوال «الجبهة الاسلامية». فهذه، وفق الأوراق المسربة، أدوات النزاع وليست أدوات التسوية. لا بل إن زهران علوش قد يحظى بحصة ووظيفة بعد «جنيف 2» فيما لن يكون الحزب أكثر من ورقة بيد غيره في المؤتمر.
ثم إن العودة المتأخرة الى لبنان لم تأتِ مترافقة مع قرار بالعودة من سورية، فالنزاع هناك لم ينته، وليس بيد الحزب أن يعود. وقد صُورت له
انتصارات ليس بمقدوره العودة منها. قد ينجح في زجر تيار «المستقبل» وفي دفعه الى المشاركة بحكومة، لكن بماذا يمكن أن يُسعفه تيار المستقبل؟ فالتسوية الكبرى في سورية قد تشمل دوراً ما لإيران في تحديد هوية النظام الجديد، لكنها لن تشمل الارتدادات الهائلة لمشاركة الحزب في القتال هناك، وإذا كانت «داعش» هي الهدية الأولى على طاولة جنيف، فما هي الهدايا الأخرى المطلوبة؟ وطبعاً لن يُقدم رأس بشار الأسد، فهذا أمر مؤجل ومتروك للمرحلة الانتقالية، وفي أحسن الأحوال سيُطلب من الحزب أن يعيد تموضعه اللبناني وفق أولويات يُمليها بدء التفاوض في سورية وعلى سورية.
الحزب لعب دوراً في تحديد المواقع، ودفع ثمناً. ولا يمكنه أن يجني عائداً، وفي أحسن الأحوال سيُقال له اذهب الى لبنان واستثمر هناك. وفي رحلة العودة سيجد الحزب بلداً بلا حدود، ولا يمكنه أن يتعدى فيه حصة بيئته الطائفية. وهذه الأخيرة ستكون متخبطة بما جرّه عليها الحزب في ساحات قتاله غير اللبناني.
(الحياة اللندنية)