تمنع القوانين المحلية والاتفاقات الدولية عرض "اعترافات المتهمين"، بناء على قاعدة ذهبية تقول "إن المتهم بريء حتى تثبت إدانته" من جهة قضائية مستقلة. ولذا، لم يبث الأميركيون في حربهم الطويلة ضد تنظيم القاعدة، اعترافات من يقبضون عليهم. بث الاعترافات يكاد يكون تخصصا عربيا، وقد برع النظام السوري في ذلك، وعلى ما يبدو فإن النظام
المصري يسير على خطاه.
ليس مهما نفي علاقة جماعة يقدر عدد أنصارها بخمسة ملايين (الذين أعطوا أصواتهم لمحمد مرسي في الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية) بالإرهاب؛ فأي جماعة بهذا الحجم تعرضت لإرهاب منهجي قتل فيه الآلاف واعتقل أضعافهم، قد يجنح بعض أفرادها للعنف. ومن الممل العودة إلى تاريخ الجماعات الجهادية، وكيف نجحت الأنظمة الاستبدادية في استنباتها، لأنه من السهل على الدولة أن تهزم تنظيما في مواجهة عسكرية، فيما من الصعب عليها هزيمة حزب جماهيري انتخابيا.
المهم ، وغير الممل، هو ربط "الإرهابيين" المعترفين بأنفاق
غزة، مع أن ألف باء الجماعات الجهادية يقول إن المساحة الرخوة لتحركها هو بلدان شاسعة، لا تتوفر فيها دولة مسيطرة، مثل ليبيا والسودان. في غزة، مساحة جغرافية ضيقة جدا، محاطة بقدرات الجيش الإسرائيلي الهائلة في المراقبة والتدقيق، كما قدرات الأمن المصري. فوق ذلك، فإن "حماس" تبذل جهودا مشهودة في مجابهة الجهاديين، ولديها سيطرة أمنية كبيرة على القطاع الصغير.
مساحة حركة الجهاديين أرحب في سيناء، وهي متنفس غزة لا العكس. وهي مساحة فضفاضة في ليبيا والسودان، فلماذا يذهبون إلى غزة وهم يدركون أن احتمالية الانكشاف واردة؟ في سيناء، تعجز الدولة المصرية عن ضبط الأمن تاريخيا، وفي ليبيا الجهاديون يرتعون استثمارا لحالة الفوضى، وفي السودان دولة مترهلة مفككة، السلاح يدخل إليها ويخرج منها بلا رقيب ولا حسيب.
لا يحتاج الإنقلابيون إلى مبرر لتجريم جماعة الإخوان؛ فهم من دون سند قانوني عطلوا كل الدساتير والقوانين، وارتكبوا أفظع المجازر بحق الأبرياء. ما يحتاجونه هو مبرر سياسي أمام العالم لاجتياح غزة. وإن كانت حكومة "حماس" ضالعة في التآمر الإرهابي، أو عاجزة عن كبح جماحه، فمن حق الجيش المصري أن يضبط غزة بنفسه. وسنجد ترحيبا إسرائيليا بالعملية الأمنية (التي سيقال إنها محدودة زمانا ومكانا)، وتفهما عالميا، بدءا من الأميركيين مرورا بالأوروبيين، خصوصا بعد الإجازة الخاصة التي قضتها مسؤولة السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي، كاثرين آشتون، في مصر.
من يقرأ بيان وزير الداخلية المصرية محمد إبراهيم، يدرك أن مسألة الحسم مع غزة اقتربت. فالنظام الانقلابي الذي لم يستطع إيقاف الاحتجاجات بعد كل هذا القتل والاعتقال، يفتعل معركة خارجية مع عدو سهل بنظره، لرص الصفوف من خلفه، والإمعان في شيطنة خصمه. وفي الوقت ذاته، يوثق التحالف مع الإسرائيليين الذين أعلنت وسائل إعلامهم أن سفيرهم في واشنطن كان وراء قرار استئناف المساعدات لمصر.
ما يغيب عن بال الإنقلابيين أن تحويل جماعة الإخوان إلى جماعة إرهابية، والربط بينها وبين "حماس"، وفي أجواء الفوضى الإقليمية العامة، سيهدد أمن إسرائيل من حيث يراد خدمته. ومن دون اعترافات متلفزة، فإن تحول جمهور الإخوان إلى جمهور جهادي مسألة واردة، لا يمنع تحققها إلا اقتناع شريحة واسعة بأن الضغط السلمي من خلال التظاهرات أبلغ أثرا من التفجيرات، فضلا عن قدرة "حماس" على ضبط الأوضاع في غزة، وهي قدرة ستنتهي في حال اجتياح غزة.