البلد محكوم بلا حكومة. هذا هو الواقع. فلا حكومة إلا ما يناسب الطبقة السياسية في رهن البلد لمشاريع لا مكان لمصالح الناس فيها، ولا مكان لرأي الناس فيها. هذا النوع من الاستبداد يلغي من الحياة السياسية ومن الحياة الوطنية وجود إدارة عامة تعالج أمور الناس اليومية والمعيشية والخدماتية، ويلغي بالتالي فكرة وجود الدولة. نحن أمام طبقة سياسية لا تريد الدولة وتعلن أنها لا تريد الدولة حتى في شكلها الأولي والبدائي وفي مظاهرها على الأقل. يمكن للبلد في تصورها أن يعيش بلا شرعية للسلطة التشريعية، وبلا حكومة للسلطة التنفيذية، وبلا رئاسة ترمز إلى وحدة البلاد. هي نفسها تتراشق التهم في تبعية أطرافها للخارج. «الفريق الآخر» و«الفريق الآخر» هو المسؤول عن تعطيل البلاد.
هذه الصورة الواقعية التي تبدو خيالية غير منطقية أمام ثقل المشكلات والأزمات والتحديات، هي صورة بلد انتزعت من شعبه القدرة على المساءلة والمحاسبة والتغيير. سرُّ هذا العجز ثقافة سياسية متراكمة لعقود جعلت من البلد وظيفة، ومن الشعب أداة مسخَّرة لقضايا وأفكار ومشاريع ومصالح غريبة عن حاجاته كشعب ليكون في مجتمع ودولة ووطن. هذا البلد الصغير تتولى نخب سياسية متتالية التزام إدارته في النزاعات الإقليمية والدولية. طوائفه أكبر منه، أحزابه أكبر منه، ثروات أشخاصه أكبر من ثرواته، وسلاح جماعاته أكبر من سلاح جيشه، وهو بلد يبحث عن هوية غربية، عربية، دينية، وعن صفة تلصق بدولته قبل ان تولد هذه الدولة، وبشعبه من دون ان يُعطى فرصة الاختيار الحر لوجوده في عيش كريم إنساني متنوع مسالم متفاعل ومنفتح. كلما تشكلت في
لبنان «كتلة تاريخية» مدنية وطنية شاملة مزّقتها سياسة القوة والعصبيات الطائفية، وأعادت شطر البلاد على محاور صراع عابرة لحدود الكيان، ولاغية للمساحات المشتركة بين مكوناته. المشكلة ليست في تأليف حكومة أو انتخاب رئيس، بل في ثقافة سياسية بدائية قبلية متخلّفة مرجعيتها القوة لا
الدستور ولا
القانون ولا العهد ولا الميثاق ولا الشعب.
لا علّة في الدستور ولا علّة في الكيان ولا علّة في وجود
الطوائف. العلّة أننا لم نؤسس حزباً ديموقراطياً. لم نخلق تياراً فكرياً حراً. لم نكوّن إرادة شعبية جامعة. لم نعرف معنى السياسة إلا عبر وجهها السلطوي، ولم نقم فصلاً بين السلطات المدنية والدينية والعسكرية والقضائية. ولم نضع حدوداً صارمة بين الخاص والعام، ولا بين الدين والسياسة، ولا بين الطائفة والدين. نحن نتشارك السكن في أرض ولدينا روح الغزو والاستيلاء عليها، ولا تصدمنا صورة الهجرة والتهجير وملايين الناس الذين عادوا بفضل ممارساتنا السياسية إلى المخيمات. لدينا أزمة كبيرة في الانتماء والالتزام بسلّم قيم للحقائق والأشياء والحوادث ولمفهوم التقدم الإنساني. لم تبدأ أزمتنا في حكومة لا تشكل بشروط واقعنا وما صرنا إليه، بل من تراكمات الكيد المتبادل، ومن عقلية الغلبة والاستقواء، في بلد ومجتمع لا يعيشان إلا على الاعتراف بالآخر وقبوله، والبحث الدائم عن صورتنا فيه.
بصراحة، لا كبير فرق في وجود الحكومة وعدم وجودها وفي حقيقة ما تقدمه الحكومات للناس أو ما يجب أن تقدمه وهو إدارة الصالح العام. لكن الفرق الخطير حين لا يعود وجود الحكومة ضرورة لأي بلد. الفرق الخطير حين لا تكون أولويات السياسيين العمل من أجل حكومة تحكم. الفرق الخطير حين يصير البلد محكوماً بلا حكومة. فهل لنا أن نسأل مَنْ يحكم لبنان؟ يحكم لبنان فعلاً الدولار والبندقية والزعيم والسفير ومَن حولهم من متسلّقي السلطة على دم الناس وفقرها وأوهامها وتشوّهات وعيها وضعف إرادتها وبؤسها المحبط والمستكين، لا بؤسها المتمرّد الغاضب.
مَنْ يحكم لبنان إذا كان حكامه عاجزين عن حماية حدوده، واحترام هيبة جنوده، والحفاظ على سمعة قضائه، والحرص على ماله العام وملكه العام، وإذا كان فيه أصحاب فخامة ودولة ومعالي وسعادة وسيادة ونيافة وسماحة وفضيلة، وفيه هذا الحجم من الكوارث الإنسانية التي تنقض المعاني السامية لأرباب السلطة؟. وهل فعلاً ما ينقصنا حكومة لنؤلف حكومة، أم أننا محكومون إلى درجة الإكراه المهين ونحتاج إلى الحرية؟