كتاب عربي 21

ساعة القرار لحركة فتح الله غولن

1300x600

إذا رغبت حركة فتح الله غولن  بخدمة المجتمع فعليها تقييد نفسها بالنشاطات غير الحكومية بدلا من استخدام تأثيرها البيروقراطي للمشاركة في السياسة.

 في الأسبوع الماضي، ومن أجل دفع الحكومة لتغيير قرارها المتعلق بالمؤسسات التعليمية، اتخذ  موضوع حركة غولن مستوى جديدا. فإذا وضعنا غولن في ذهننا علينا أن نناقش بدلا من ذلك علاقة الحركات الإجتماعية بالسياسة في فترة تكون فيها تحت وصاية، بنفس الطريقة التي احتاجت فيها الحركات الاجتماعية التفاعل مع السياسة والدولة خلال تشكل تركيا الجديدة في عصر ما بعد الوصاية.

واجهت العلاقات بين العامة (الناس) والسياسة في تاريخنا السابق مرحلتين فاصلتين، الأولى جاءت بعد الاستقلال، أخذت فيها الإدارة الكمالية وبفهمهما للإرادة الوطنية  القائمة على مبادئ روسو، على عاتقها فكرة احتكار الحكم باسم الشعب. أما المرحلة الثانية، فقد حدثت بعد إلغاء الانتخابات الحرة والتعددية الحزبية. وتم تحويل الإرادة الوطنية التي كفلها دستور عام 1961 إلى يد البيروقرطية المعينة. ويمكن تعريف كلا الفترتين التي لم يكن فيها للأمة أي حق في التأثير في العملية السياسية من خلال مفهوم الوصاية.

وخلال هاتين الفترتين اللتان عرفتا مفهوميا كوصاية، فقد سيطرت على السياسة مجموعة واحدة، مع أنه كان يجب أن تكون مفتوحة للمشاركة القومية. وهو ما رأت فيه الحركات الاجتماعية على تنوع آرائها السياسية  اغتصابا للسلطة من قبل النخبة الكمالية. وفي هذه الفترة التي أصبحت فيها الأمة غريبة عن الدولة والسياسة وغير فاعلة، برزت أيضا الكثير من الردود الإستراتيجية التي لم تكن متوافقة مع  السياسة الديمقراطية. فقد تحولت بعض هذه الجماعات للمقاومة المسلحة، فيما حاولت أخرى البحث عن حلفاء لها داخل القوات المسلحة للوصول للسلطة عبر الانقلاب، فيما ركزت أخرى على تنظيم نفسها من خلال البيروقراطية، والزحف تدريجيا  للسيطرة عليها. وقد استطاع الكماليون الوصول للسلطة، وتهميش الرأي العام وتشريع  جهودهم لأن السياسة كانت مغلقة على الإرادة الوطنية. ومن هنا فقد تبنت الجماعات والتنظيمات بتنوعاتها السياسة وتوجهاتها بنية تنظمية اتخذت شكل حركات.

تطبيع السياسة

بعد عقود من الجهود التي لم تتوقف، وصل نظام الوصاية إلى نهايته، فيما أصبحت السياسة مفتوحة للرأي العام وتؤثر في عملية اتخاذ القرارات، ومن هنا اقتضت الحاجة أن تغير الحركات الاجتماعية إستراتيجيتها لأنها كانت تقوم على فكرة الوصاية. والتاريخ السياسي مليء بالأمثلة عن الحركات الإجتماعية القديمة التي لم تكن قادرة على التكيف مع التغيرات السياسية، ومن حاول  منها الوقوف أمام تيار الزمن والتغيير جلبت على نفسها الأضرار. وقد شاهدنا في تاريخنا الماضي القريب كيف حاولت الكثير من الحركات ذات التأثيرات السياسية المختلفة التصدي لمخاض التغيير.

 وتعتبر حركة غولن من الجماعات الأوفر حظا التي تواجه ضغوطا كي تغير إستراتيجيتها التي تم بناؤها في زمن الوصاية. فقد طبقت المنظمة منذ إنشائها إستراتيجيتين؛ فمن ناحية، قامت بالتركيز على تقديم الخدمات في الفترة التي كانت تقوم بإنشاء تنظيم ذي قاعدة دينية – مدنية، مما جعلها نموذجا ناجحا عن حركة خدمات. ومن ناحية أخرى، ومثل بقية الحركات التي ظهرت في نفس الوقت، ركزت على أهمية اختراق المؤسسات الحيوية في الدولة.

وقد أدى فتح القنوات بين المجتمع والسياسة والدولة  إلى تغيرات جذرية، أولا في مجال النشاطات السياسية والوسيلة التي تم تقديم الخدمات منها للناس. وفي الوقت الذي أصبحت فيه الديمقراطية صالحة، ورفعت فيه الحواجز بين الدولة والناس أصبحت شرعية الحركات الاجتماعية محدودة في مجال تأثيرها وفاعليتها العامة. فالطريقة الوحيدة التي يتم فيها جعل الدولة ترتبط وبشكل حقيقي مع الشعب تتمثل في الانضمام للسياسة من خلال القنوات الاجتماعية وباستخدام الآلية الديمقراطية. وضمن هذا السياق فالاستراتيجية التي ركزت على الدولة وتبنتها حركة غولن قبل نصف قرن تقريبا فقدت شرعيتها. وصار من الضرورة البحث عن إستراتيجية جديدة يمكن لحركة غولن من خلالها خدمة العامة، وهي التركيز على  النشاطات المدنية  والتخلي عن الإنجازات البيروقراطية للتأثير على السياسة.

مؤسسة الوصاية الجديدة

فمع أنها لم تحصل على الحق أو الشرعية لاتخاذ القرارات من الأمة، فإن جهودها لتعزيز تأثيرها عبر استخدام المؤسسات الإستراتيجية للدولة، ليست إلا محاولة لإحياء نظام الوصاية.

 وتعتبر هذه الجهود في حد ذاتها نخبوية وتقدم من خلالها نفسها على أنها المنقذ. وهذا الملمح النخبوي يجعل من الحركة لا تشعر بالحاجة لأن تمتحن من الرأي العام من خلال العملية الديمقراطية. ولأنهم لا يحتاجون لذلك، فإنهم يقدمون آراءهم على آراء الحكومة الشرعية. وبهذه النزعات قرر الكماليون في السنوات الأولى من عمر الجمهورية أنهم يملكون الحق في اتخاذ القرارات نيابة عن الرأي العام. والمؤسسات التي تم انتخاب أفرادها لإدارة الدولة بعد انقلاب عام 1960 العسكري، وحركة جولن أسست شرعيتها على هذه المباديء الكمالية.

ولهذا يبدو تمسكها بالحفاظ على موقعها للتاُثير على مؤسسات الحكومة الاستراتيجية يبدو فترتي الوصاية التي مرت على الجمهورية. ففي عصر فتحت فيه  صناديق الاقتراع وقنوات الخدمة المدنية المتعددة، يكون استمرار حركة غولن في حشد قواها واستخدام المصادر التي حصلت عليها خلال الفترة غير الطبيعية بمثابة العمل على بدء فترة وصاية جديدة.

 ومع تقدم هذه المحاولة، فهي تقوم بتعويق عمليات الدمقرطة في البلاد، وستضر بالأسس التي بنتها الحركة، لأن الاحترام الذي حازت عليه حركة غولن بين الناس لم يكن بسبب مشاركتها في السياسة، بل بسبب  الخدمات التي قدمتها لهم.  فالطريق لخدمة الناس في النظام الديمقراطي واضحة ولا تحتاج إلى  التأثير على الإرادة السياسية المنتخبة من خلال الحصول على مقاعد في مؤسسات الدولة الاستراتيجية.

في تركيا الجديدة، أي منظمة لا تنبع قوتها من الشعب ولا تعتمد على الإجراءات الديمقراطية في البلد، لا يجب تحظى بالحق في التأثير على السياسة.  وعليه فمحاولة حزب العدالة والتنمية لوقف محاولات الوصاية التي تقوم بها حركة غولن ضرورة لتعزيز عمليات الدمقرطة في البلاد. وتقتضي المسؤولية من حركة غولن وداعميها تجاه البلد أن تتخلى عن محاولة الوصاية والتركيز على خدمة الناس.

* كاتب تركي - مدير مركز الدراسات السياسية والاقتصادية والاجتماعية (سيتا)
الأكثر قراءة اليوم
الأكثر قراءة في أسبوع