لم تتخيل العروس الغزيّة منى صبيح، والتي مضى على زفافها عدة أسابيع فقط، أن تكون مهمتها هي البحث عن أعواد القش وأوراق الشجر وتجهيز ما التقطته لإيقاد كانون النار في ركن بعيد بساحة المنزل.
وغادرت صبيح مطبخها المجهّز بأحدث الأجهزة الكهربائية للجلوس لساعات أمام النار المتقدة في الخارج لاستكمال رحلة طهي الطعام بعد أن أعلنت أسطوانة
الغاز عن نفاد آخر قطراتها.
ولا تدري العروس كم ستبقى على هذا الحال الذي أصابها بالأرق والاكتئاب.
وتضيف الفتاة العشرينية: "أن أترك مطبخي والأفران الحديثة، لإشعال كانون النار! ، هذا لم أتخيله يوما، لقد نفد غاز الطهي والأنبوبة ستبقى لمدة لن تقل عن أسبوعين كما أخبرنا الموزع."
وكانت الأزمات الاقتصادية المتلاحقة على قطاع
غزة، والمتمثلة بالنقص الحاد في غاز الطهي، والانقطاع المستمر للتيار الكهربائي قد أجبرت العائلات الغزّية للعودة إلى الوسائل البدائية كاستخدام بابور الجاز، وكانون النار، وتشييد أفران مصنوعة من الطين.
ولأن غياب الكهرباء لساعات طويلة يقف حائلا دون استخدام الأقراص الكهربائية والأجهزة الحديثة كبديل لنفاد غاز الطهي سارع الخمسيني أبو خالد راضي لصناعة فرنٍ صغير من الطين في فناء منزله.
وقال راضي الأب لثمانية أبناء إنّ الوضع الاقتصادي المتردي في الوقت الراهن والذي يزداد تدهورا شيئا فشيئا دفع الغزيين للعودة إلى الماضي، واستخدام الأساليب القديمة.
وتابع: " نفد غاز الطهي، وثلاث أسطوانات فارغة تصطف في طوابير الانتظار، ولا حل أمامي سوى اللجوء لفرن الطين، لطهي الطعام وإنجاز احتياجات العائلة، صحيح أن زوجتي لم تتقبل الفكرة في بداية الأمر ولكن الكارثة التي نحيا تفاصيلها باتت أكبر من اختياراتنا."
وكانت أزمة نقص غاز الطهي قد تفاقمت في غزة بشكل غير مسبوق بعد أن لجأ أصحاب المركبات لاستخدام الغاز في تشغيل سياراتهم لانقطاع الوقود المصري، ونفاده من محطات التعبئة والأسواق، إضافة لعدم قدرة الكثير منهم على التزود بالوقود الإسرائيلي المرتفع التكلفة.
وهو ما دفع وزارة النقل والمواصلات في الحكومة
الفلسطينية في غزة مؤخرا لإصدار قرار يمنع استخدام غاز الطهي كوقود لتشغيل السيارات كبديل للسولار المصري المفقود.
ولا تكفي الكميات المدخلة يوميا من معبر كرم أبو سالم الخاضع للسيطرة الإسرائيلية والمقدرة بـ"120" طنا، لتلبية احتياجات القطاع الذي يحتاج كحد أدنى لـ"300 طن يوميا.
وبعد أن نفض الغبار عن "بابور الكاز" وفحصه وتحريكه قدّم الموظف الحكومي أسعد حبيب لزوجته ما وصفّه بـ"هدية الموسم".
وأضاف إن الحصول على بابور كاز هذه الأيام يشبه العثور على كنز ثمين.
واستطرد بالقول: "بتنا نلجأ إلى أبسط الوسائل، وأكثرها بدائية لأجل تسيير أمور الحياة المعطلّة بفعل
الحصار والأزمات غير المنتهية."
وما أن يحل المساء وتشتد لسعات البرد حتى يسارع الشاب العشريني أحمد سالم لشراء كميات من الفحم وإيقاد كانون النار بحثا عن الدفء المفقود.
وعلى الرغم من خوفه من نيران الكانون وما قد تسببه من أذى وحرائق إلا أن الشاب أحمد كما غيره من الآلاف وجد في الكانون الصغير ملاذا لتدفئة والده المريض العجوز، وبديلا لوسائل حديثة لم يعد لها قيمة في القرن الـ"21" كما يؤكد في حديثه.
وتابع:" أجهزة التدفئة تعمل على الكهرباء التي لم يعد لها وجود، و"الكانون" يقدم لنا التدفئة، كما أننا نقود بإعداد الشاي والقهوة والمشروبات الساخنة على نيرانه بعد أن شح غاز الطهي."
وترى أم أنس الزايغ الأم لخمسة أطفال أن غزة تبدو وكأنها تعيش في الأزمنة البدائية، إذ تؤكد أن أزمة الكهرباء جعلتهم عاجزين عن استخدام الأجهزة الحديثة .
واستدركت بالقول :" غسل وتنظيف الملابس أصبح يدويا، وطهي الطعام إما على كانون النار أو فرن الطين، وهو ما يجعل الحياة صعبة ومعقدة."
وكانت سلطة الطاقة التابعة في قطاع غزة قد حذرت الاحد في مؤتمر صحفي من ازدياد عدد ساعات قطع التيار الكهربائي مع دخول فصل الشتاء.
وقالت إن ساعات وصل الكهرباء الست تكفي للإنارة المنزلية فقط، وأن تشغيل أي أجهزة تدفئة أو مكيفات سيزيد من أحمال الكهرباء، مما سيتسبب بفصل التيار عن المنازل لساعات إضافية.
وتمد سلطة الطاقة سكان غزة بتيار كهربائي وفق جدول يعمل على 6 ساعات وصل، ثم يتم قطعه لمدة 12 ساعة أخرى، في ذلك على الخطوط المصرية والإسرائيلية.
وللأسبوع السادس على التوالي تشهد محطة توليد الكهرباء الوحيدة في القطاع توقفا كاملا عن العمل، عقب نفاد الوقود اللازم لتشغيلها.
وتعيش غزة هذه الأيام واقعا اقتصاديا وإنسانيا صعبا، تسبب في تعطل كافة تفاصيل ومناحي الحياة, وأعاد قرابة مليوني مواطن للعصور القديـمة.