ثمة انكفاء أمريكي، مقرر ومعلن، في الشرق الاوسط. وذلك بعد عقود من الحضور الفاعل والمهيمن، جرى تتويجه باستئثار أمريكي بشؤون المنطقة مع انهيار الاتحاد السوفياتي. ولن تعوض هذا الانكفاء اتفاقات تعاون تريد انقاذ بعض من مصالح اقتصادية، وبعض من مواقع عسكرية في اطار الحرب على الارهاب.
ثمة محصلة مرئية ومتزايدة الوضوح لهذا الانكفاء، بغض النظر عن اسبابه، سواء تحت وطأة الأعباء الاقتصادية الكبيرة التي تحملتها الولايات المتحدة في حروبها الاخيرة، خصوصاً في افغانستان والعراق، او بفعل قرار من الادارة الحالية صاحبة النظرة الجديدة الى المصالح الأمريكية في العالم.
هذه المحصلة هي الفراغ الذي يتركه هذا الانسحاب الأمريكي، والذي يبحث عن مصادر ملئه، من خارج المنطقة ومن داخلها، بما يطلق مخاضاً معقداً وتشابكاً جديداً للمصالح. ويبدو ان مواقع الخصومات التقليدية للولايات المتحدة هي الاكثر نشاطاً لوراثة دورها المنحسر، خصوصاً ان اوروبا صاحبة العلاقة التقليدية في المنطقة لم تعد تملك ادوات استعادة دورها السابق الذي فقدته امام التمدد الأمريكي بعد الحرب العالمية الثانية، خصوصاً ان اوضاعها الاقتصادية والعسكرية تعاني ازمات بنيوية، وإن كانت تحاول الحفاظ على حد ادنى من اسواق ومصالح اقتصادية، خصوصاً امدادات الطاقة.
لا تخفي روسيا تطلعها الى ملء بعض الفراغ الأمريكي او كله، خصوصاً بعد انتفاء العامل الايديولوجي الذي وقف حائلاً دون تمدد النفوذ السوفياتي خلال الحرب الباردة. وتعتقد روسيا - بوتين انها تملك القدرة والحق في مثل هذا التطلع، نظراً الى موقعها الجيوسياسي والى امكاناتها الاقتصادية، خصوصاً في مجال الطاقة والتصنيع الحربي.
وفي حين ان تركيا راحت تتراجع هي ايضاً، بعد مرحلة تمدد، تجدد ايران هجومها الديبلوماسي، مع طاقمها الحكومي الجديد برئاسة حسن روحاني. لا بل تعتبر طهران ان ثمة فرصة لا تعوض بالنسبة اليها من جراء الانكفاء الأمريكي. فهي من جهة تعتبر انها وراء هذا الانكفاء، بفعل دورها في افغانستان والعراق ولبنان، ومن جهة اخرى مستعدة للتفاوض مع واشنطن لتسهيل عملية الانكفاء، كما فعلت مع الانسحاب العسكري من العراق.
وهناك طرف آخر يريد ان ينسب الى نفسه ايضاً ارغام الولايات المتحدة على الانسحاب من المنطقة، وهو تنظيم "القاعدة" وفروعه المنتشرة على امتداد المنطقة من باكستان الى المغرب. ومع زيادة الانحسار الأمريكي عن المنطقة، سيتجه التنظيم اكثر فأكثر نحو الداخل، بما يجعله اقل تهديداً للولايات المتحدة التي بدورها تعيد ضبط سياستها في مكافحة الارهاب على اساس هذا المعطى الجديد.
في ظل هذا المخاض الذي يشهد سباقاً محموماً لملء الفراغ الأمريكي، يبدو النظام العربي هو الغائب الكبير. فلا نواة صلبة لهذا النظام تملك استراتيجية واضحة للحماية الذاتية، ولا قوة عربية اقليمية تملك مشروعاً سياسياً جدياً يمكن ان يشكل عنصر استقطاب، على رغم وجود عناصر مثل هذه القوة على المستويين الاقتصادي والبشري.
هكذا يبقى مصير ملء مساحة الانكفاء الأمريكي مرتبطاً بحدود المفاوضات المتزامنة الأمريكية - الروسية والأمريكية - الايرانية، والتي افضت اولاها الى تهيئة "جنيف 2" لحل في سورية والثانية تهدف الى حل الازمة الايرانية - الغربية، اي محاولة التفاهم على معالجات لشؤون في المنطقة، هي الأكثر إلحاحاً وإثارة للاهتمام.
ولذلك اذا كان هناك قلق عربي من هذه المفاوضات فهو قلق مبرر، حتى لو كانت هذه الاخيرة متعرجة وغير مضمونة النتائج في اي اتجاه كان. لكن الاجدى هو التساؤل عن اسباب استبعاد الطرف العربي منها، اي التساؤل عن مكامن الضعف العربي وكيفية معالجته، بدل التباكي على الصداقات المطعون في ظهرها. وما لم تتبلور قوة عربية اقليمية ونظام عربي جديد قادر على الفعل وملء بعض الفراغ الناشئ عن الانكفاء الأمريكي، سيظل التجاذب محصوراً بين الهجوم الديبلوماسي والميداني الايراني ونظيره "القاعدي"، يتواجهان تارة ويتعاونان اخرى، لكن الاستقطاب نحو التشدد يبقى هو المهيمن.
(عن صحيفة الحياة 17/11/2013)