تكمن مأساة
الشعب الفلسطيني ليس فقط في تشرده من أرضه، وظروف عيشه ثقيلة الأثمان اليومية، وإنما تكمن، وفي الكثير من جوانبها، في طبيعة معالجة أي خلل ينتاب هذه العلاقة بين أي فلسطيني، وبين أخيه العربي القريب، ناهيك عن ذاك الأجنبي البعيد والأبعد.. علاقة تخضع لشتى التوصيفات، يداني بعضها العنصرية، ويقترب من وخز الإبر أو طعن السكاكين. فالفلسطيني في البلاد العربية هو أخ ولكن غير شريك، وهو ذو صلة رحم ولكن من غير ميراث، وهو صاحب قضية مع ضرورة الحفاظ على إستراتيجية أمن كل قطر.. وهو إنسان خيّر وشرير في آن، نُخضِعه للمحاسبة وتنفيذ الأحكام إذا اقتضت ضرورات الأمن القومي والوطني والسياحي، متناسين أن فرداً في العائلة الواحدة، ومن أبوين شرعيين قد تأخذه ظروف الحياة الى ما قد يُبلي عائلته بأكملها.
هنا مكمن صعوبة المحاسبة والمحاكمة والاعتراف والتأديب والنكران والقبول بالولد الضال ذي الإعاقة بنكبته المزمنة. فكيف إذا ما تضافرت شتى صنوف السلوكيات والتعقيدات النفسية والثقافية والتربوية والاجتماعية والسياسية والمصيرية والتراجيدية في مواطن عربي من جهة ومأساة عنوانها شعب فلسطين.
بداية، نسجل للدكتور حسين أبو النمل اقتحامه كرسي الاعتراف للإدلاء بشهادته عن وقائع العلاقات الفلسطينية -
اللبنانية التي مرت أو عصفت (؟) بلبنان، وإصراره الضمني على تجميل و«مَكيجَة» بعض وقائعها بطِلاء الشهامة التي تقتضي الترفع عن الصغائر أزاء أم القضايا فلسطين. وإن كنا نعرف، ويعرف، أن انتقاء وقائع شخصية جميلة، أو أحداثاً جليلة عاشها، بصفته المسؤول والشاهد العيان (تجربة أبو النمل)، لا تكفي كي تصبح باقي نتائج مأساة بحجم نكبة فلسطين، على الواقعين الفلسطيني واللبناني، وكأنها حديقة غناّء.
حسناً فعل وهو الباحث الفلسطيني في الشؤون الفلسطينية والإسرائيلية في كتابة «نص أرضَى ضميري.. كنت أبحث عن وعيي في نفسي ووعيي..»، والأحسن، جاء في سبكه اعترافاته هذه، وقراءته تلك، لتلك الوقائع من العلاقات المعقدة الفسطينية -اللبنانية، في قالب المعدن الرنان.. إذ قد تتفاوت أصداء ذبذبات ما ينجم عن طرقه، وتلونات ما قد يطفو على سطح حقائقه من حقائق أنواع الأصباغ المستخدمة.
العلاقات الفسطينية - اللبنانية، بحر من تعقيدات القضية الأم، وتذررات مأساوية شعبها، مذ توزعوا مجموعات وأفراداً في شتات الأرض غير الفسطينية.. وإذ يرنو أبو النمل الى تظهير جماليات تلك العلاقة رغبة ممهورة بحسن النيات، مقصودة بقصد التطهير والتعالي كي ينحو الجميع ناحية ترجيع الأمور الى حقيقة ما يجب أن تكون عليه، فإن في ما أورد، وكان دافئا كما يشتهي لهذه العلاقات، ونبيلاً كما مارس هو مسؤولياته النضالية، ومتستراً في بعض أسطرها على ما ورد في حقبات مفصلية، ظهر وكأنه عاكس بعض تلك الوقائع.
للتوضيح، «مكر» أبو النمل في يقينيته من أن «منسوب العلاقات المذكورة وطبيعتها كانا وما زالا يتحددان في ضوء تطور منسوب الهوية الديموقراطية للنظام السياسي اللبناني ومستقبله»؟ (ما تزال طبيعة النظام في لبنان مصدر شكوى)، وفي تفخيمه «سر فخامة الملك كميل شمعون»، وفي مبادرة النائب سامي الجميل، وبعض التلميح في تحميل مأساة تل الزعتر لاحتجاز بشير الجميل، وتلطيش على تغطية ناصرية لسياسة شهابية قمعت، فساوت في بطشها بين القومي السوري الاجتماعي والشيوعي والبعثين بشقيهما، الى تأكيد منه، واستدراك، لسلوك حركة فتح التوريطية؟
فمن أين لـ«أبو النمل» أن يرى أن جودة الحياة للفلسطينيين في لبنان كانت في فترة الخمسينيات من القرن العشرين، وفي عهد كميل شمعون خاصة. غريب ألم يقرأ، ولا بد أنه من الشرهين بالقراءة، مذكرات موشيه شاريت واتصالاته المبكرة مع كميل شمعون تحديداً؟ وقد كانت فترة حلف بغداد، والطلب لإنزال «المارينز» في بيروت، وأحداث الـ58 الدموية؟ وألم تكن فترة راحة الفلسطيني في لبنان في الخمسينيات هي فترة بدايات تشرده وحمله أمواله المنقولة، واستفادة لبنان من تلك المحنة، ومن أدمغة بنيها ومستوى التعليم العالي الذي حازوه؟
من منا لا يرغب بضرورة تقييم تلك العلاقة لتقويمها، لما شابها من نزوات جاهلية السلوك، وبدائية تطبيق الهدف، وصبيانية نضالات البعض منها.. وذلك بقصد تقييم ما هو قائم منها اليوم، مع سؤال عن: أين صارت هذه العلاقة في سياق ما هو عليه وفيه الوضع الفلسطيني في الداخل والشتات، من انقسام، وسبات، وسكون، واستكانة، وخمول، وشيخوخة عاجزة، وتقاعس، وانتظار الحل الخارجي، وما هو عليه وفيه الوضع السياسي اللبناني، من انقسام وجمود وانتظار الحل الخارجي، وتالياً وقوع الطرفين بين مطارق الوضع الاقليمي وسندان ذاك الدولي، فمن أين سيكون لأبناء المخيمات حقوقهم المدنية، ومن أين للحقوق الفلسطينية أن تؤخذ بهيبة قوة معنوية تفتقدها؟
الزمن الجميل الذي عاشه أبو النمل وأهله في بلدة رميش المارونية، وبلدة الحنية الشيعية، وتلقيه التعليم في المقاصد السنية، إثر لجوئهم المباشر الى لبنان بعد النكبة، (مارست رميش دوراً راقياً في علاقة حسن الجوار أثناء حرب اسرائيل على لبنان في تموز 2006 بإيوائها أهل بلدة عيتا الشعب)، لا يخفي معاناة اللبنانيين والفلسطينيين من هذا «الموزاييك» الكاذب والغامض والمبدع والمتجاور في آن. (الحرب الاهلية، الشريط الحدودي، التحالف مع العدو الاسرائيلي، ارتكاب المجازر، قصف الجيش للمخيمات، تسهيلات تجارية متبادلة، ومنافع شخصية الخ) يبدي أبو النمل ما يشبه الانزعاج، من تسرع عباس زكي وما يمثله من تقديم الاعتذار عن إساءة الفلسطيني للبنان في ما مضى، من دون أن يحصل بالمقابل على اعتذار أو اعتراف مماثل ـ وهنا لب هذه العلاقة المعقدة والمركبة والواقعة تحت تأثير النكبة المتمادية ـ مع تثمينه لاعترافات أسعد الشفتري وريجينا صفير، معتبراً أن ممارسة المصالحة على النحو الزائف والساذج مع «إعلان فلسطين»، جعلت المصالحة الفلسطينية - اللبنانية أكثر ابتعاداً وتعقيداً، كما أن رائحة الموت التي ما زالت تحاصر شفتري وصفير لا تزال في الأفق (يبدي احترامه لهما).
وإذ يسأل، عما إذا كان الفلسطيني قد دفع ثمن اتفاق الطائف بنزع حقه بالعمل والملكية (حصلت في حكومة الرئيس المرحوم رفيق الحريري في التسعينيات من خلال الوزيرين عبدالله الأمين وميشال المر) بديلاً لنزع صلاحيات مسيحيي لبنان في الاتفاق المذكور، فإنه يضع مسار هذه العلاقة في خانة أزمة هوية لبنان (أوليست في خانة البعد العربي الرسمي لها)، وانحداره لاحقاً الى أزمات مذهبية، فصارت حقوق الفلسطيني المدنية، المُتعِوذ منها الجميع ربطاً بالتوطين، مرتبطة لدى «حزب الله» بحقوق هذا الشعب في فلسطين، وليس هنا. كيف نسي أبو النمل أن وزير العمل السابق الدكتور طراد حمادة المحسوب على «حزب الله» في تلك الحكومة هو من أصدر مجموعة قرارات تسمح للفلسطيني بالعمل لكن الحكومة لم تعمل على إقرارها؟
ختاماً، ولتوخي المزيد من المسك، هو أنه كي نحيا علينا أن نعترف، فالاعتراف سبيل سليم لتقويم نحققه في داخلنا الجواني، ونوازن به بُعدُنا الخارجي، منعاً لتكرار ثقافة التخوين، واللعب من تحت الطاولة، والاختباء خلف براغماتية مبتذلة (يسخر الكاتب من ادّعاء الراحل ياسر عرفات بأنه حكم لبنان، متسائلاً عن مكان الرئيس الراحل حافظ الأسد يومها). ولكن «ظبَطت» مع أبو النمل بقوله «ما كان محزناً وليس مسلياً منظر، الفلسطينيين وهم يطلبون معونة أمراء حرب لبنانيين قام وجودهم على انتهاك القانون، لتطبيق قانون لمصلحة الفلسطينيين».
÷ حين كان الزمن الفلسطيني - اللبناني جميلاً - مقاربة منهجية تاريخية تأصيلية للعلاقات الفلسطينية - اللبنانية والحقوق المشروعة لفلسطينيي لبنان - بحث بتمويل من معهد عصام فارس للسياسة العامة والشؤون الدولية في الجامعة الأميركية في بيروت ووكالة الأونروا في لبنان.
(عن السفير اللبنانية)