عشرة أيام، كانت كفيلة ببسط قوات المعارضة
السورية سيطرتها على كامل إدلب ومعظم حلب وحماة، وهي بينما أكتب هذه السطور على
تخوم حمص، فيما جبهة درعا تحركت والفرصة في السويداء سانحة. تقدم مفاجئ للمعارضة
يقابله تقهقر متسارع لقوات النظام، مما استدعى اتصالات وتحركات وإجراءات على
المستويين الإقليمي والدولي، يبدو أنها أبطأ من أن تواكب مستجدات الميدان، مما
يجعلها أضعف في تقييد انعكاساته على الجميع.
وهذا ما طرح مجموعة أسئلة عن دوافع تحرك
المعارضة وسر نجاحاتها وأسباب انهيار النظام وتقهقره، وخريطة توزع القوى ومواقف
الدول المؤثرة والأسباب الكامنة وراءها، ومآلات الأمور خلال الأيام القادمة.
سوريا عشية 27 تشرين الثاني/ نوفمبر 2024
عشية بدء عملية
ردع العدوان، كانت 6 قوى
محلية أو شبه محلية تتقاسم السيطرة على الأرض، بدعم من 5 دول أجنبية تملك النفوذ
والقواعد العسكرية.
فالنظام السوري كان يسيطر على 63 في المئة
من مساحة سوريا البالغة أكثر من 185 ألف كيلومتر متربع، فيما القوات الروسية
متمركزة في 122 موقعا عسكريا، بالمقارنة مع 529 موقعا عسكريا إيرانيا، فيما تبسط
قوات سوريا الديمقراطية (قسد) سيطرتها على قرابة 25 في المئة من التراب السوري، بدعم من الولايات المتحدة الموجودة في 32 موقعا عسكريا. أما المعارضة بمختلف
فصائلها، فكان لها 11 في المئة من الأرض، سواء عبر هيئة تحرير الشام التي تقود
عملية ردع العدوان، أو الجيش الوطني الذي يقود عملية
فجر الحرية، والمدعوم من تركيا
التي تملك 126 موقعا عسكريا في سوريا. ويتبقى الاحتلال الإسرائيلي فيما احتله من
أراضي الجولان.
وخلال الفترة الممتدة من 2017، دأب النظام
وحلفاؤه من الروس والإيرانيين على خرق الاتفاقات مع المعارضة، من أستانا 2017 إلى
موسكو 2020، ومعه تآكلت سيطرة المعارضة إلى الحال الذي كانت عليه قبل عمليتها
الأخيرة. ولكن إلى مطلع العام 2024 حمل الجديد، حيث استغلت قوات
الأسد وحلفاؤها
ظروف المنطقة والعدوان الإسرائيلي على غزة ولبنان، فكثفوا ضرباتهم على أكثر من 6 ملايين
سوري؛ ثلثاهم من النازحين المحشورين في إدلب وريف حلب، وكانت الدرونات العمياء
عنوان مرحلة ترويع المدنيين، وتنغيص حياتهم اليومية، وإدخالهم في موجات نزوح جديدة.
لدينا حليف روسي منغمس في الحرب الأوكرانية، ولم يعد يمتلك من الموارد ما كان لديه قبل 10 سنوات، على الرغم من الأهمية الاستراتيجية التي تشكلها سوريا بالنسبة له؛ بوصفها قاعدة تأمين مصالحه وعملياته في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. كما أن إيران وأذرعها قد استُنزفت في حرب إسرائيل على حزب الله، والضربات التي كلفتها بنيتها القيادية والعسكرية في سوريا، والدخول في حرب النقاط عبر الرد والرد المضاد مع الاحتلال الإسرائيلي. ولكن هذا لا يعني أن طهران ستتخلى بسهولة عن مصالحها الاستراتيجية في سوريا، التي يضمنها وجود الأسد.
هذا عسكريا، أما سياسيا فقد دخل النظام
السوري مرحلة إعادة التأهيل برعاية إماراتية- سعودية، وهو ما أتاح لبشار الأسد
المشاركة في القِمم العربية والإسلامية، بالتزامن مع عودة سفارات أكثر من 7 دول
أوروبية، ودعوة مجموعة من الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي لمنسق السياسية
الخارجية السابق جوزيف بوريل، إلى إعادة تقييم العلاقة مع دمشق وبحث تخفيف
العقوبات، خطوة ألمحت واشنطن إلى الاستعداد لها أيضا، فيما أعلن الرئيس التركي غير
مرة عن رغبته بلقاء الأسد وتطبيع العلاقة معه، ولكن دون استجابة الأخير. وهذا ما
جعل الجميع أمام حقيقة استبعاد المعارضة السورية ومطالب الشعب السوري وثورته، التي
بلغت 13 عاما عن النقاش حول مستقبل سوريا.
ما الذي تغير على جبهتي النظام والمعارضة، حتى تتقدم المعارضة وتحافظ على مكتسباتها، وينهزم النظام ويعجز عن التعويض؟
على ضفة النظام السوري، لدينا حليف روسي
منغمس في الحرب الأوكرانية، ولم يعد يمتلك من الموارد ما كان لديه قبل 10 سنوات،
على الرغم من الأهمية الاستراتيجية التي تشكلها سوريا بالنسبة له؛ بوصفها قاعدة
تأمين مصالحه وعملياته في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. كما أن إيران وأذرعها قد
استُنزفت في حرب إسرائيل على حزب الله، والضربات التي كلفتها بنيتها القيادية
والعسكرية في سوريا، والدخول في حرب النقاط عبر الرد والرد المضاد مع الاحتلال
الإسرائيلي. ولكن هذا لا يعني أن طهران ستتخلى بسهولة عن مصالحها الاستراتيجية في
سوريا، التي يضمنها وجود الأسد، وهو ما عبرت عنه جولات وزير الخارجية الإيراني، وتصريحات مستشار المرشد الأعلى علي لاريجاني، التي وصلت حد اتهام تركيا بالوقوع في
الفخ الأمريكي الصهيوني.
أما النظام، فعلى نقاط ضعفه المتراكمة؛ جيش ينخره الفساد والطائفية، وضعف في العقيدة القتالية، والحالة الاقتصادية
المتردية التي يغطيها الظلم والاستبداد، وتكاثر مراكز القوى والنفوذ وتنازعها.
أما المعارضة السورية، من خلال أدائها
المبهر عسكريا وسياسيا واجتماعيا، يبدو أنها قد تعلمت من تجاربها السابقة.
فبالإضافة إلى استغلالها الجيد لعناصر ضعف النظام والسياقات المحلية والإقليمية،
وحّدت قواتها تحت "إدارة العمليات العسكرية"، وأعدت نفسها لسنوات طويلة
لهذه المعركة، وتتقدم بثبات واقتدار مع امتلاك عنصري السيطرة والتحكم اللذين
فقدهما النظام. كما أنها تتبنى رؤية سياسية واضحة ترفع مطالب الثورة في العام
2011، وتحمل خطابا وطنيا يساوي بين أبناء سوريا، ويضمن حياة وممتلكات وحرية معتقد
الأقليات، وفيه مكان للمنشقين عن جيش النظام، كما أنه مبني على تغليب التسامح
والمصالحات. والأهم أنها خلال أيام نجحت في تقديم نفسها كبديل للحكم المدني، قادر
على تقديم الخدمات للشعب السوري، مثل الكهرباء التي لا تكاد تنقطع عن مدينة حلب
بعد أن ألف الناس الظلام.
هل تراجع قوات النظام تراجع تكتيكي أم
انسحاب عشوائي؟ وماذا عن العقيدة القتالية لجيش النظام؟
وقائع ثابتة خلال الأيام الماضية، يمكن
لها أن تجيب على هذا السؤال؛ فالأولى، تتمثل فيما غنمته قوات المعارضة من كميات
وأنواع أسلحة لم يسبق لها أن امتلكت مثلها طوال 13 عاما، وأهمها منظومة الدفاع
الجوي الروسية "بانتسير- إس1"، وما يزيد عن 100 دبابة وصواريخ مضادة
للطائرات وأخرى مضادة للدروع، ومخازن مليئة بالأسلحة والذخائر، وهو ما يؤكد حقيقة
الانسحاب العشوائي، ولو أنه تراجع تكتيكي، لما ترك النظام هذه الأسلحة خلفه، ولكان
دمرها على أقل تقدير.
تقاطع مصلحة إسرائيل مع طهران فيما يتعلق بانتصار المعارضة، وينفي ما يروجه الإيرانيون والروس والنظام من أن تحرك المعارضة جاء ضمن خطة صهيونية-أمريكية، أو أنه استغل انغماس حزب الله ومن خلفه طهران في الحرب مع إسرائيل، وربما رمزية انتظار المعارضة لتوقيع اتفاق وقف العدوان على لبنان، مؤشر يمكن التوقف عنده.
أما فكرة العقيدة القتاليّة، فتفسرها سرعة
السيطرة على حلب من جهة، واستعصاء حماة لأربعة أيام من جهة أخرى، حيث إن قوات
المعارضة تكبّدت العناء عند بلدة "قمحانة"؛ وذلك نتيجة لوجود مليشيات محلية
جندها وأسسها الضابط سيئ السمعة في صفوف النظام، سهيل الحسن، ومرتبطة بمصالح
مباشرة. وعليه، فإن هذه الروح القتالية لو كانت موجودة عند جيش النظام، لكان تمكن
أقله من تأخير تقدم المعارضة.
تفسير مواقف الدول مما يجري!!
هل تخلفت روسيا وإيران عن نجدة بشار
الأسد؟
وفقا لوقائع الميدان التي شهدت تراجع دور
الطيران الحربي الروسي، بالقياس على ما مارسه منذ العام 2015 من قصف لقوات المعارضة
والمدنيين في مناطق سيطرتها. وبالاستناد إلى صور الأقمار الصناعية التي نشرها معهد
دراسات الحرب في واشنطن، التي تؤكد سحب موسكو لأسطولها البحري من قاعدة طرطوس، فإن
روسيا لم تتدخل بالشكل اللازم لدعم قوات النظام، وإن كان هذا يخالف ما قاله بوتين
لأردوغان، أو ما صرح به لافروف من الدوحة أو حتى ما سيتمخض عنه اجتماع الدوحة بين
الروس والأتراك والإيرانيين، مع الأخذ بالاعتبار مصالح روسيا الاستراتيجية التي
يمثلها وجودها في سوريا.
أما إيران التي بدأت مع غزو العراق عام 2003
في بناء خط بري يمثل نفوذها في المنطقة وطريق إمداد لحزب الله يمتد من إيران إلى
لبنان، وهو ما تهدده سيطرة قوات المعارضة على حمص، فهي تريد وتحتاج إلى مساعدة
نظام الأسد، وهو ما عبر عنه وزير خارجيتها ومستشار مرشدها وقائد حرسها الثوري،
ولكنها لا تستطيع. فبالتوازي مع فقدان الغطاء الجوي الروسي والقواعد الصلبة لجيش
النظام، خسرت طهران هيكل القيادة والتحكم في سوريا، سواء عبر الضربات الإسرائيلية
خلال العام الماضي، أو من خلال سحب حزب الله لجلّ قواته لاستخدامها في لبنان،
وتقييد قدرة قواتها ومليشياتها على الحركة، وصعوبة نقل قوات جديدة وإمدادات إضافية
إلى سوريا بفعل الضربات الإسرائيلية؛ التي يحركها الخوف من نقل هذه الأسلحة
والمقاتلين إلى حزب الله في لبنان، وليس العداوة مع جيش الأسد أو الرغبة في دعم
المعارضة.
هل حرّكت إسرائيل المعارضة كما تدعي إيران
وروسيا؟ وما حقيقة موقف تل أبيب؟
انطلاقا من موقف الإمارات الداعم لنظام
الأسد، وهو ما تمثل علانية باتصال محمد بن زايد ببشار الأسد وإعلان دعمه المطلق
له، وهي الدولة التي تملك سجلّا في التطبيع مع الاحتلال على الرغم من مجازره
المستمرة بحق الشعب الفلسطيني منذ سنة وشهرين، وبالتوازي مع الاستنفار السياسي
والأمني الإسرائيلي وتبني رؤية العداء للمعارضة والنظام في سوريا على حدّ سواء،
وبالأخذ بالاعتبار التصريحات السابقة والمعلومات المسربة عن عدم تشكيل الحدود
السورية مع فلسطين المحتلة يعد خطرا على الاحتلال بوجود نظام الأسد، وهو ما تصدقه
برودة هذه الجبهة حتى في ظل العدوان الإسرائيلي على لبنان، فإن إسرائيل تتشارك مع
إيران وروسيا الخوف والقلق والتوجس من المعارضة السورية، ولا ترغب بتبدل الواقع
الذي تمرست على التعامل معه منذ عام 1973.
كل هذا، يؤكد تقاطع مصلحة إسرائيل مع طهران
فيما يتعلق بانتصار المعارضة، وينفي ما يروجه الإيرانيون والروس والنظام من أن
تحرك المعارضة جاء ضمن خطة صهيونية-أمريكية، أو أنه استغل انغماس حزب الله ومن
خلفه طهران في الحرب مع إسرائيل، وربما رمزية انتظار المعارضة لتوقيع اتفاق وقف
العدوان على لبنان، مؤشر يمكن التوقف عنده.
هل أعطت تركيا الضوء الأخضر لقوات
المعارضة؟ وما العناصر التي تحكم الموقف التركي؟
يحكم الموقف التركي من المعارضة السورية 3
عوامل، يتمثل الأول في الأمن القومي التركي الذي يعد الخطر الأساسي عليه قوات
سوريا الديمقراطية (قسد) والمنظمات الإرهابية الكردية المتحالفة معها، وهو ما دفع
تركيا إلى إطلاق عدة عمليات لاستهداف هذه التنظيمات في العمق السوري، التي هدفت
إلى إبعادهم عن الحدود 30 كيلومترا، وهو ما يبرر الدعم التركي للجيش الوطني
المعارض في سوريا، الذي أطلق بالتوازي مع عملية ردع العدوان عملية فجر الحرية، التي
اقتصرت على استهداف مناطق وجود (قسد)، وخصوصا أن النظام السوري يحاول التلاعب
بهذه الورقة للضغط على تركيا، من خلال تسليم مواقعه إلى قوات قسد، ولكم في مطار حلب
دليل.
تركيا في أقل تقدير مستفيدة حتى اللحظة من تقدم قوات المعارضة، إن لم نقل إنها أعطت الضوء الأخضر لبدء عمليتهم، دون السهو عن أن هذا الأمر سيقوض العلاقة مع طهران وموسكو بشكل أو آخر.
أما العامل الثاني، فمرتبط بالسياسة
الداخلية التركية، الذي ينقسم التأثير فيه إلى عنصرين: ملف اللاجئين السوريين في
تركيا، حيث يساعد استعادة المعارضة لحلب على قطع شوط كبير في حلّه؛ كون قرابة 1.2
مليون لاجئ في تركيا هم من أبناء حلب، واستعادتها يدفع الكثير منهم إلى العودة،
وخصوصا أن سكانها قبل الثورة كان 6 ملايين، في حين لا تزيد التقديرات الحالية
الرقم عن مليون ونصف. أما العنصر الثاني، فيتمثل في الاحتياجات الإنسانية لسكان
المناطق المحررة؛ لأن تلبية الحد الأدنى من احتياجاتهم يخفف الضغط على الهجرة غير
الشرعية إلى تركيا كبلد استقرار أو ممر إلى أوروبا.
هذا، ويمثل الاستثمار الدولي في الورقة
السورية المضلع الثالث في عوامل تحديد اتجاهات الموقف التركي، خصوصا أنها صاحبة
التأثير الأكبر وليس الوحيد على فصائل المعارضة السورية، دون أن نسهو عن المكانة
التي تحتلها حلب في وجدان الشعب التركي من أيام السلطنة العثمانية.
هذه العوامل، تجعل تركيا في أقل تقدير
مستفيدة حتى اللحظة من تقدم قوات المعارضة، إن لم نقل إنها أعطت الضوء الأخضر لبدء
عمليتهم، دون السهو عن أن هذا الأمر سيقوض العلاقة مع طهران وموسكو بشكل أو آخر.
ولكن الموقف التركي قد يشكل وسيلة لتوطيد
العلاقة مع واشنطن، ودفعها نحو التخلي عن دعم قوات (قسد)، خصوصا مع وصول ترامب إلى
البيت الأبيض الذي يميل إلى الانسحاب من سوريا، كما أن علاقته بالرئيس أردوغان
إيجابية نوعا ما، ولكن الفيصل في الأمر، أن تضمن تركيا مصالح الولايات المتحدة، المتمثلة في محاربة ما تبقى من تنظيم الدولة وتأمين مصالح واشنطن في حقول النفط في
المنطقة، وهو أمر قابل للتحقق.
وبناء على كل هذه المعطيات المتعلقة
بالنظام ومقوماته وحلفائه، والمعارضة وقيادتها ومناصريها، واللاعبين الإقليميين
ومصالحهم ودوافعهم، فإن نظام بشار الأسد يعيش الربع ساعة الأخيرة قبل السقوط، الذي
ستكون له تداعياته العميقة على الوضع الإقليمي الهشّ.