قضايا وآراء

تحرير العقل من الإرث المألوف ومعاداة المجهول!

"المجددون كتبوا أسماءهم بحروف من نور في لوحة المصلحين"- CC0
قالوا قديما: الإنسان عدو ما يجهل وأسير ما يألف.. عقبة كؤود في طريق العقل، تحرمه التفكير العلمي والبحث المنهجي والتقدم الحضاري، تمنعه الراحة والسعادة في الحياة بل تجعله مرتبكا في تصوره لآخرته.

وقد عُرف عن بعض أهل العلم أصحاب الشأن والمكانة قناعتهم بأفكارهم العقلية وآرائهم الفقهية، لكن منعهم من الإفصاح والجهر عدم جاهزية المناخ العام، حفاظا على سمعتهم العلمية ومكانتهم الشرعية والاجتماعية، وتأوّلوا حتى لا يُفتن العوام بأفكارهم وفتواهم ولا يُشق صف العلماء بجرأتهم، وقد نُقل هذا عن كبار العلماء أمثال الشيخ شلتوت وأبي زهرة وغيرهما.

طرح الجديد وغير المألوف له ثمن، من الضغوط والاتهام وربما التشويه والتشكيك والكلام، ثمنٌ دفعه الأنبياء والدعاة والمصلحون، دفعه إبراهيم عليه السلام وقالوا: حرّقوه، ودفعه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: جاء بدين جديد فكذبوه، وهو الصادق الأمين.

طرح الجديد وغير المألوف له ثمن، من الضغوط والاتهام وربما التشويه والتشكيك والكلام، ثمنٌ دفعه الأنبياء والدعاة والمصلحون

حتى في مجال العلوم كُذب العلماء هنا وهناك واتُهموا بالهرطقة، هكذا الحال مع كل جديد هنا وهناك. فبعضهم يتخوف من طرح الجديد وغير المألوف في تقدير المواقف وحل الأزمات لعدة اعتبارات:

- منهم من لا يملك جديدا لذا يقاومه لأن الإنسان عدو ما يجهل.

- ومنهم من يملك الجديد، لكن تعطله الحسابات والمصالح والاتهام الجارح.

- ومنهم من يملك الجديد، لكنه يخشى تحمل المسؤولية التاريخية حتى لا يقال عنه: فعل كذا يوم كذا.

- ومنهم من يملك الجديد، لكنه يتأوّل مخافة التداعيات وتعقيد المواقف والحسابات.

كل هؤلاء لا يراهَن عليهم في التطوير والتجديد والتقدم، لكن يراهن عليهم في إبقاء الوضع على ما هو عليه حتى يأتي من يتحمل المسؤوليات ويتجاوز التخوفات، لذا يطلق عليهم سياسيا بالمحافظين أو الحرس القديم، وهو وصف ليس فيه اتهام، لكن فيه دلاله على عدم التغيير ومخافة الإقدام.

أما المجددون فكتبوا أسماءهم بحروف من نور في لوحة المصلحين، لوحة بها قائمة طويلة ممن تحرروا من الإرث المألوف ومعاداة المجهول، منهم الصديق أبو بكر وعمر الفاروق وخالد سيف الله وغيرهم كثير.. ومنهم حسن البنا وسيد قطب ومحمد الغزالي ويوسف القرضاوي ومحمد عمارة رضي الله عنهم أجمعين.

فيا عزيزي المؤمن انظر لنفسك في أي اللوحات وأي القوائم تحب أن تكون وفقك الله.


ثم إن الرأي مهما بلغ نضجه ورشده وحكمته هو رأي شخص يحتمل الصواب والخطأ، وليس سنة كونية ثابتة وغالبة. مثلا الآراء متنوعة في الشعوب والحكام والعلاقة بينهما، رأي في صفات الشعوب وأفهامهم وسلوكهم وخضوعهم أو مقاومتهم وشجاعتهم أو جبنهم، في كرمهم أو بخلهم، ورأي في حال الحكام مع الشعوب خاصة حالات الاستبداد والفساد والقمع.

وتأتي الأحداث والحوادث لتثبت أن كل الآراء في الشعوب لم تنضج بعد، والشعوب هي دائما الأنضج والأرشد، لكن بطريقتها هي، وليست بالطرق التي تكتب عنها.

زالت الأحداث الشواغل تصنع بقصد لصرف المصلحين عن جادة الطريق، وما زال المصلحون يوقنون بأنها علامات صحة الطريق، فاطمأنوا من حيث أريد لهم التشكيك، وتبينوا من حيث أريد لهم الجهالة والتعتيم، واستمروا حين أريد لهم التعطيل

لكن يبقى أن ندرك أن من فوائد الأحداث الجسام والأحداث العظام أنها تأتي لتختبر الأفكار والقيم والسلوك، نظل نتكلم ونطرح، ثم تأتي الأحداث لتقيس الفجوة بين القيم والإجراءات والأقوال والأفعال والاستيعاب والصدمات؛ لذا كانت الحكمة النبوية "إنما الصبر عند الصدمة الأولى"، والقاعدة القرآنية "الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إيمَانا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ" (آل عمران: 173).

هناك أزمات لا حيلة لنا أمامها، لا نملك أسباب الحل أو المنع أو الإنقاذ، لكننا نملك، توضيح الرؤى وتصحيح المفاهيم ودعم النفوس والعقول حتى تستوعب أنت وغيرك ما يحدث، ومعها تتجرد من حولك وقوتك إلى حول الله وقوته.

دورات حياة الأجيال؛ في الدعوة والدولة، في المصلحين والفاسدين، في الأنبياء والمشركين، المهم فهم واستيعاب ما يحدث، وبذل ما في الوسع للإصلاح والتغيير ونصرة المظلوم ومكافحة الظالم، قدر الطاقة.

وللعلم، ما زالت الأحداث الشواغل تصنع بقصد لصرف المصلحين عن جادة الطريق، وما زال المصلحون يوقنون بأنها علامات صحة الطريق، فاطمأنوا من حيث أريد لهم التشكيك، وتبينوا من حيث أريد لهم الجهالة والتعتيم، واستمروا حين أريد لهم التعطيل.

في الأحداث الجسام والخطوب العظام، نستدعي سيرة الأنبياء والمرسلين والأنصار والصحب الكريم، ونردد بثقة ويقين: "وَلَمَّا رَأى الْمُؤمِنُونَ الْأحْزَابَ قَالُوا هَٰذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ۚوَمَا زَادَهُمْ إلَّا إيمَانا وَتَسْلِيما".

هنا يكون الميزان هو اليقين والإيمان قد ينفرج الكرب أو يطول، فما علينا إلا السير على أمل الوصول، منا من يصل ويشاهد، ومنا من يرحل وهو يجاهد.