مقالات مختارة

إسرائيل: إسبارطة الصهيونية وأوهام السلام

الأناضول
«تصعيدٌ من أجل خفض التصعيد». هذا هو التخريج الذي تناقلته وسائل الإعلام لتفسير منطق وأهداف الهجوم الإسرائيلي الأخير ضد لبنان. وذكرتني هذه المقولة السريالية بالمقطع الشهير من رواية جورج أورويل 1984، الذي كان قد عاد إلى الواجهة والأذهان بعيد شيوع خطاب «الحرب على الإرهاب» ومفرداته وهو، أن «الحرب سلام».

«الحرية عبودية. الجهل قوة»، لكن ما أود التركيز عليه، هو مركزية الحرب في تكوين المجتمع الإسرائيلي، الذي قد لا يفوقه أي مجتمع آخر من ناحية تغلغل عقيدة الحرب في اقتصاده السياسي وثقافته.
وليس من مبالغة ألبتة في المقولة التي تردد: إن إسرائيل جيشٌ يمتلك دولة. يمكن الرجوع إلى كتاب الباحث الإسرائيلي حاييم برشيث – زابنر «جيش لا مثيل له: كيف صنع الجيش الإسرائيلي دولة»، الصادر بالإنكليزية عام 2000، الذي يستفيض في تحليله للموضوع.

كان الجيش وما زال مركز الوجود الإسرائيلي منذ عهد بن غوريون، الذي رأى أن الجيش سينهض بمهمة تكوين الدولة، بينما تحول القومية «المعدن الخام الذي يمثله يهود الغيتوهات إلى ذهب خالص يمثله الجندي الإسرائيلي».

كان برشيث – زابنر قد هاجر مع والديه البولونيين الناجيين من المحرقة إلى فلسطين في عام 1948. ومع أنهما لم يكونا ذوي عقلية استعمارية، حتى إن والده رفض التدرب على السلاح على متن السفينة، لكنهما تآلفا وتطبعا مع المشروع الاستعماري في ما بعد.

يحاجج برشيث – زابنر بأن الخدمة العسكرية في إسرائيل تبدأ حتى قبل الولادة؛ لأن البنى الاجتماعية معسكرة بشكل تام، وأن أجهزة الدولة والمجتمع تشكّل منظومة سياسية ـ ثقافية ـ عسكرية – صناعية. ويبين ارتباطها بالحقل الأكاديمي أيضا. وقد نشرت مايا وند كتابا مهما مؤخرا حول هذا الموضوع عنوانه «أبراج العاج والفولاذ: كيف تحرم الجامعات الإسرائيلية الفلسطينيين من الحرية»، توثّق فيه دور المؤسسات الأكاديمية الإسرائيلية كذراع في مشروع الاستعمار الاستيطاني.

بالعودة إلى مركزية العنف في المجتمع الإسرائيلي، بعد أحد عشر شهرا من الإبادة، هناك مئات اللقطات والأدلة التي سجّلها الجنود الإسرائيليون بأنفسهم، وهم يحتفلون ويتباهون ويتلذذون بالتدمير والعنف الوحشي الذي مارسوه ضد فلسطينيي غزّة.

في الأيام الأخيرة، انتشر مقطع من شريط وثائقي عن المستوطنين، يظهر فيه عدد منهم وهم يركبون سفينة تجوب البحر قبالة سواحل غزّة ليتفرّجوا عليها وهي تقصف. وتتحدث دانييلا فايس، وهي واحدة من قادة مجموعات المستوطنين عن العودة إلى غزّة واستيطانها وجعلها يهودية، وتظهر أيضا عضو الكنيست سون هار- ميليخ، متحدثة عن صهيون في غزّة. ويشير الأطفال بسباباتهم إلى غزّة. وقد ظهر أكثر من سياسي إسرائيلي في الأيام الأخيرة يدعو إلى استيطان جنوب لبنان أيضا.

إسرائيل هي إسبارطة العصر الحديث بامتياز. مجتمع ودولة عمادهما الحرب وقيمها وثقافتها. تساءل أحد المعلقين الإسرائيليين في افتتاحية نشرت في كانون الأول/ يناير 2023: «لماذا لم نكن مستعدين للسابع من تشرين الأول/ أكتوبر؟» وكان جوابه؛ «لأن شعبنا لا يريد أن يصبح نسخة يهودية من إسبارطة».

ويفترض المعلق، مثلما افترض آخرون غيره من الإسرائيليين في السنة الأخيرة، أن إسرائيل كانت، حتى عهد قريب، «أثينا» في مناخها السياسي والثقافي، بكل ما تمثله في المخيال التاريخي (والمؤسطر) من انفتاح وتنوّع وديمقراطية، لكن السابع من أكتوبر أجبرها على أن تكون إسبارطة! ويلتقي هذا الخطاب مع الشعار الترامبي «فلنجعل أمريكا عظيمة ثانية»!

ما هو أفق إسبارطة الصهيونية؟ وما الذي يريده الصهاينة؟ حروب لا تنتهي؟ ومعاهدات سلام مع أنظمة لم تحاربهم أصلا؟ وهي ليست معاهدات سلام بقدر ما هي اتفاقيات تعاون عسكري واستخباراتي واقتصادي مع الأنظمة، لا مع الشعوب.
لم تبق إسرائيل بلدا مجاورا لم تقصفه أو تهجم عليه.

لم تبق إسرائيل بلدا مجاورا لم تقصفه أو تهجم عليه، وهي تحتل أراضي سوريا ولبنان وفلسطين، ولم تحدد رسميا حدودها النهائية حتى اليوم. لم تكن حكومات إسرائيل يوما جديّة في أي سعي إلى «السلام»، بل حرصت على جعله مستحيلا بالمماطلة «خلق حقائق على الأرض»، حتى ابتذلت مفردة «السلام» وأفرغت من دلالاتها. فما معنى السلام من دون عدالة واعتراف بالحقوق؟

كان واضحا من البداية وحتى قبلها أن إسرائيل لن تكون «أثينا». كتبت حنّة أرندت في 1948 محذّرة مما ستؤول إليه الأمور: «سيعيش اليهود المنتصرون محاطين بشعوب عربية معادية كليا، معزولين داخل حدود مهدّدة دائما.
منغمسين في الدفاع عن النفس إلى درجة يغطي فيها ذلك على كل المصالح والفعاليات الأخرى.. سيتمحور الفكر السياسي حول الاستراتيجية العسكرية.. وسيكون هذا مصير دولة سيظل شعبها صغيرا يفوقه عدديا جيران معادون، مهما استوعبت من مهاجرين وتوسعت حدودها… سينحط اليهود في فلسطين ويصبحون واحدة من تلك القبائل المحاربة التي قال لنا التاريخ الكثير عن أهميتها واحتمالاتها منذ زمن إسبارطة.

ستصبح علاقتهم مع يهود العالم إشكالية؛ لأن مصالحهم الدفاعية ستصطدم في أي لحظة بمصالح البلدان التي يعيش فيها عدد كبير من اليهود. سينفصل اليهود في فلسطين في نهاية المطاف عن يهود العالم، وسيصبحون في عزلتهم شعبا آخر».

في مقالة كتبها بعد أسابيع من حرب الإبادة الإسرائيلية ضد غزّة، تساءل الكاتب والمترجم الأمريكي (اليهودي) إليوت واينبرغر «عمّا إذا كانت إسرائيل جيدة لليهود أصلا».

القدس العربي