ما أشقّ الكتابة عن
تونس في وضعها الراهن، فكلما ظن المرء أن فكرة استوت في
نصه ظهر له ما ينقضها فيعود إلى حيرته. في وضع عادي، تونس تستعد بعد أقل من شهر للذهاب
إلى صناديق الاقتراع لتختار لها رئيسا، وهو أمر محمود لكنه لا يخرج من الورق،
فالاختيار مضيّق إلى حد الاختناق، وتغيير الرئيس يصير أمنية مستحيلة.
من سيكون الرئيس بعد 6 تشرين الأول/ أكتوبر؟ قبل ذلك، هل سيتحمس الناس
للذهاب إلى الصندوق، أم أن الأجواء السائدة سترفع مناسيب اليأس وينفض الناس عن
الصندوق وعن السياسة ويستسلمون للسائد المدمر؟
التحليل الرغبوي يريحنا
لقد صار يقينا أن إسقاط الهيئة الانتخابية لثلاثة
مرشحين حصلوا على حكم بات
من المحكمة الإدارية كان خطوة جبارة لفسح الطريق لبقية المرشحين، وتسلل إلينا في
هذا اليقين بعض الرغبة فكتبنا أن فسح الطريق سيكون أيضا لمرشح مجهول لم تستطع
الهيئة إسقاطه، هو السيد الزمال. ودفعنا التحليل الرغبوي إلى أن هذا تدبير من
القوى الصلبة لكي يتم الاستبدال بطريقة قانونية تمنح الفائز شرعية، وذهبنا إلى حد
استحضار الحالة السنغالية. لكن التنكيل الذي يتعرض له المرشح والذي سيحرمه من
التواصل مع الناس في حملة انتخابية فرض علينا سؤالا: لماذا لا تحمي القوة الصلبة
مرشحها ليخوض حملته فوق الأرض لا من تحتها؟
هل يدخل هذا التنكيل من تدبيرها وهي ترتب من وراء ظهورنا للترويج لرئيس مظلوم، أم أنها تعلمنا أن تحليلاتنا العاطفية أو أمانينا لا أساس لها وأن ما نرغب فيه ليس هو ما سيجري على الأرض؟
هل يدخل هذا التنكيل من تدبيرها وهي ترتب من وراء ظهورنا للترويج لرئيس
مظلوم، أم أنها تعلمنا أن تحليلاتنا العاطفية أو أمانينا لا أساس لها وأن ما نرغب
فيه ليس هو ما سيجري على الأرض؟
إنها لصورة جميلة أن تكون القوة الصلبة وبالتحديد المؤسسة العسكرية من وراء
التغيير، بهدوء وبلا دماء ولا فوضى مؤقتة أو دائمة. وهي صورة نحبها في الجيش لكن
هل بنينا على وهْم، وأن المؤسسة ستكتفي بدور تقني بحث في الإشراف على
الانتخابات كما
اعتادت سابقا دون التأثير فيها من وراء ستار؟ فإذا سقطت هذه التحليلات/ الأماني
ماذا يبقى لنا؟
أين القوى الدولية؟
في حالة الغرق التي تعسّر التنفس نتساءل عن خطاب القوى الدولية التي كانت
تروج لنا، وأحيانا بواسطة أذرع محلية عن حرصها على رعاية ولادة
ديمقراطية في تونس.
كان ظهور هذه القوى في المشهد يثير حفيظة الناس فيستعيدون خطاب السيادة في مواجهة
قوى الهيمنة، ويصل غضبنا إلى حد القول: دكتاتور محلي ولا حاكم تابع للغرب. ها قد
جربنا التخريب الكامل ونرى المزيد منه يتهددنا، وتظلم السبورة أمامنا فنقول أين
القوى الدولية لتساعد شعبا مضطهدا على التحرر؟ ألا تمارس ضغطا من أجلنا؟
ثم تعيدنا غزة إلى الحقيقة الفاجعة، إن القوى الدولية التي تدمر غزة برغبة
عارمة في القتل لا تهتم لحال شعب بائس ساهم في صنع بؤسه بنفسه. وهذه القوى تعرف
بالخصوص أن شعب هذا البلد مع غزة، لو كُتب له الانعتاق من قيوده (وفي التاريخ
القريب شواهد) وما دام الوضع لم ينتج فوضى مزعجة تصل إلى حدود هذه القوى الجغرافية؛
فالأمر تحت السيطرة ويمكن كتابة أوراق عن أن الديمقراطية لم تخلق للعرب، وهذه
عرفناها وتعودناها، بما يجعل سؤالنا أعلاه نوعا من حشرجة المذبوح.
لن يساعد شعب تونس أحد في أزمته السياسية الراهنة، بل نظن يقينا أن هناك من
يراقب المشهد ويبتسم نكاية في شعب وصل إلى حريته وضيعها. هل نكتب تلك الجملة
الوعظية السمجة: كل أزمة ستنتج حلولها من داخلها؟ يمكن أن نكتبها لكننا سنغفل
الثمن المدفوع حتى الوصول إلى لحظة الوعي العام بأن الخلاص في الحرية والحفاظ
عليها من كل ردة.
ثمن الحرية الغالي
حصلنا على خبر غير يقيني أن أوراق الانتخابات قد أُرسلت إلى المطبعة
الرسمية وفيها ثلاثة أسماء، أي أن المرشح الزمال لا يزال رغم المطاردة في السباق.
وهذا، رغم نقضنا للتحليل الرغبوي، يُبقي لنا ثقب إبرة لنخرج منه على رئيس جديد.
لكن من يمكنه أن يحرّض المحبطين على الذهاب إلى الصندوق والمغامرة باسم شخص مجهول؟
هل يكفي التعاطف مع مظلوم ليصير رئيسا؟ لن نستمع للرجل في حملة انتخابية ولن نعرف فيما
يفكر غير الجُمل التي قالها قبل سجنه وهي قليلة.
هناك في تونس من يفضل البقاء تحت ربقة الظلم على أن يكون هناك مناخ حرية يستفيد منه خصومه الوجوديون. لقد كانت هذه بوابة خراب تجربة تونس الديمقراطية، وهي لا تزال مفتوحة على المزيد من الخراب
فرصة كبيرة لتصويت عقابي تفتح على مجهول جديد وبتبرير معقول عند كثيرين؛
ليس أسوأ من القائم، ومهما ساء البديل فإنه لن ينزل بنا إلى أسفل من الدرك الحالي.
وقد يقوم الناجح بالتعاطف بحركات تهدئة تنفس الأحقاد ليستقر له الأمر، لكن إذا لم
يكن ما يتعرض له مسرحية (كما نرغب بلا شماتة) فإن احتمال التصويت له سيكون مخيفا، والقطاع
الواسع من الناس الذي رفض المشاركة في تزكيات المترشحين سيخاف من التصويت، رغم أن
خلوة الصندوق أكثر أمانا من التزكية المكشوفة بالهوية الشخصية.
هذا ثقب الإبرة الأخير الذي سيعلمنا -إن رغبنا في التعلم- أن كل هذا العناء
هو ثمن حرية قدمتها لنا الثورة ففرطنا فيها، وأنه ثمن/ تسبقة أيضا لإعادة صعود
ربوة الحرية بلا أظافر. غني عن التذكير أن هناك في تونس من يفضل البقاء تحت ربقة
الظلم على أن يكون هناك مناخ حرية يستفيد منه خصومه الوجوديون. لقد كانت هذه بوابة
خراب تجربة تونس الديمقراطية، وهي لا تزال مفتوحة على المزيد من الخراب.
ما زال على التونسيين دفع ثمن أعلى لتكون الحرية قيمة مشتركة بينهم توجه
سلوكهم السياسي في المحطات المصيرية، ودرس انتخابات 2024 لن يكفي إلا بمعجزة.