لا يزال مسار التقارب بين
تركيا والنظام السوري يراوح بين تصريحات المسؤولين من كلا الطرفين، والتي أصبحت مؤخرا تحمل تضاربا في ما بينها على وقع تأكيد أنقرة لوضع
بشار الأسد شروطا مسبقة للتفاوض ونفي الأخير لصحة ذلك، مُعيدا الملف إلى "العناوين الرئيسية" التي يجب إجراء المحادثات حولها بناء على "مرجعية" تفضي إلى "ورقة مبادئ".
وكان ملف إعادة العلاقات بين تركيا ونظام الأسد شهد تقدما ملحوظا خلال شهر تموز/ يوليو الماضي مع تبادل دمشق وأنقرة رسائل وُصفت بـ"الإيجابية"، قبل أن يبدأ بالتراجع في ظل وضع الأسد شرط انسحاب القوات التركية من الأراضي السورية على طاولة المفاوضات قبل الجلوس إليها، بحسب تصريحات أدلى بها وزير الدفاع التركي يشار غولر.
والأحد، قال الأسد خلال كلمة له في العاصمة السورية دمشق، إن "المرحلة التي تتحدث عنها
سوريا الآن هي مرحلة الأسس والمبادئ لأن نجاحها هو ما يؤسس للنجاح لاحقا"، مشيرا إلى أن "تصريحات المسؤولين الأتراك حول قول سوريا إن لم يحصل الانسحاب فلن نلتقي، لا أساس لها من الصحة، فمعيارنا هو السيادة".
واعتبر في حديثه أمام "مجلس الشعب" أن فشل المحادثات السابقة بين نظامه والجانب التركي هو بسبب عدم "وجود مرجعية"، مشددا على أنه في إطار "المبادئ فإن أية عملية تفاوض بحاجة إلى مرجعية لكي تنجح".
وأضاف أن هذه المرجعية قد تستند إلى عدة أشياء، بما في ذلك المسائل العالقة بين الجانبين، والتي قسمها الأسد إلى "عناوين سورية وعناوين تركية".
وأشار إلى أن العناوين التركية تتمثل في "موضوع اللاجئين وموضوع الإرهاب"، بينما تتمثل العناوين السورية في "ما تصرح به سوريا بشكل مستمر عن موضوع الانسحاب من الأراضي السورية وموضوع الإرهاب أيضا".
وعادة ما يشير الجانب التركي بحديثه عن "الإرهاب"، إلى حزب "العمال الكردستاني" (بي كي كي) الذي يتخذ من جبال قنديل في العراق مقرا له، إضافة إلى وحدات الحماية الكردية شمال شرق سوريا، التي تراها أنقرة امتدادا للعمال الكردستاني، فيما يشير نظام الأسد إلى فصائل المعارضة المسلحة التي تدعمها أنقرة في شمال غرب سوريا.
واعتبر الأسد أنه "حين يتم الاتفاق على هذه العناوين فإنه يجب أن يصدر بيان مشترك من خلال لقاء بين المسؤولين في الطرفين بمستوى يحدد لاحقا"، موضحا أن "هذا البيان المشترك يتحول إلى ورقة تشكل ورقة مبادئ هي التي تشكل القاعدة للإجراءات التي يمكن أن تتم لاحقا بالنسبة لتطوير العلاقة أو الانسحاب أو مكافحة الإرهاب أو غيرها من العناوين التي تهم الطرفين".
الباحث في الشأن التركي محمود علوش، أوضح أن "التوافق على ورقة المبادئ لا يمكن أن يحصل سوى على طاولة المفاوضات"، موضحا أن الأسد "يريد أن يشمل التفاوض كل القضايا في هذه العملية دفعة واحدة".
وأضاف علوش في حديثه لـ"عربي21"، أن "الأسد سعى في خطابه إلى إظهار رغبته في التطبيع بالقدر الذي سعى فيه إلى الحفاظ على سقف تفاوضي مرتفع".
هل عاد الملف إلى محطاته الأولى؟
تسارعت خطى أنقرة على مسار التقارب مع الأسد على وقع إعلان الرئيس التركي رجب طيب
أردوغان استعداده للقاء مع رئيس النظام السوري، الشهر الماضي، في تركيا أو بلد ثالث.
وجاء إعلان أردوغان هذا، بعد أيام قليلة من حديثه عن إمكانية استئناف العلاقات مع نظام الأسد ورفعها إلى المستوى العائلي، كما كان الحال عليه قبل الثورة السورية.
في حين أعرب الأسد، الذي يمضي على هذا المسار بدفع من حليفه الرئيسي
روسيا، التي تلعب دور الوساطة بين الجانبين، عن ترحيبه بأي "مبادرة إيجابية مبنية على مبدأ السيادة الوطنية".
ومع تبادل الرسائل "الإيجابية بين الجانبين"، تحدثت العديد من الصحف التركية عن لقاء متوقع بين أردوغان والأسد خلال شهر آب/ أغسطس الجاري، إلا أن الزخم الذي قوبل به ملف التطبيع خلال تموز تراجع بشدة خلال الأسابيع الأخيرة، وقد غابت ملامح اقتراب أي لقاء بين الرئيسين.
وفي 15 آب/ أغسطس الجاري، اتهم وزير الدفاع التركي، يشار غولر، النظام السوري برفض العودة إلى "الاستقرار والسلام"؛ عبر وضعه شروطا مسبقة للبدء في مفاوضات تطبيع العلاقات بين أنقرة ودمشق.
وقال إن "وضع نظام الأسد شروطا مسبقة، كالمطالبة بانسحاب القوات التركية من سوريا، يعد بمثابة رفض لعودة الاستقرار والسلام"، لافتا إلى أن النظام السوري يطالب بتحديد تاريخ محدد لانسحاب القوات التركية من الأراضي السورية قبل التفاوض، وهو الأمر الذي نفاه الأسد في حديثه الأخير.
وجدد الوزير التركي مطالبات أنقرة بوضع دستور جديد لسوريا، وإجراء انتخابات، وتأمين الحدود؛ للتقدم في محادثات تطبيع العلاقات، مشددا على أن بلاده "مستعدة للعمل مع من يصل إلى السلطة بعدها".
ومع عناوين الأسد الأخيرة ومطالبته بمرجعية للمباحثات بين الجانبين، أوضح سمير العبد الله، مدير قسم التحليل السياسي في مركز حرمون للدراسات المعاصرة، أن رئيس النظام السوري "أعاد مسار التقارب مع تركيا إلى نقطة البداية".
وأشار في حديثه إلى "عربي21"، إلى أن الأسد تحدث عن "ضرورة المصارحة بين الطرفين كأساس لإعادة العلاقات، وبهذه الطريقة أعاد الحوار إلى الأسس والمبادئ"، مشيرا إلى أن "أي تقدم يجب أن يعتمد على توافق حول القضايا الجوهرية، وليس على تفاهمات شكلية".
و"نفي الأسد لصحة التصريحات التركية المتعلقة بمطالبة النظام بالانسحاب التركي من سوريا كشرط للمفاوضات يعكس رغبته في إظهار أن نظامه ليس عقبة في المفاوضات"، يقول العبد الله.
ولم تصدر تركيا أي بيان للتعليق حول نفي الأسد صحة تصريحات وزير الدفاع التركي إلى غاية نشر هذه المادة.
وقال الأسد إن سياسة نظامه تجاه الأمر "لم تتغير لا سابقا للحرب ولا لاحقا لها"، وأضاف: "لم نرسل قوات لكي تحتل أراضي في بلد جار لكي ننسحب اليوم، ولم ندعم الإرهاب لكي يقوم بقتل شعب جار، وكنا نعتبره شقيقا".
واستدرك الأسد خلال حديثه عن انسحاب تركيا من الأراضي السورية، بالقول إن هناك حاجة "للتراجع عن السياسات التي أدت إلى الوضع الراهن (بين أنقرة ونظامه)، وهي ليست شروطا، وإنما هي متطلبات من أجل نجاح العملية".
وتعد مسألة انسحاب القوات التركية من شمال سوريا إحدى أبرز العقبات أمام مسار التقارب، حيث تشبث الأسد لفترة طويلة بضرورة سحب أنقرة لقواتها من الأراضي السورية للجلوس إلى طاولة المفاوضات.
واعتبر الأسد أن فشل المحادثات التي بدأت بين نظامه والجانب التركي منذ نحو 5 سنوات، هو بسبب عدم "وجود مرجعية"، مشددا على أهمية المرجعية لدفع المباحثات نحو الأمام.
بحسب مدير قسم التحليل السياسي في مركز حرمون، فإن الأسد "يريد الإيحاء بأنه حريص على أن تكون المفاوضات مثمرة، وأن تكون هناك مرجعية واضحة لكل طرف في المفاوضات، فهو من جهة يخشى من انقلاب الموقف التركي عليه، وهو لذلك لا يريد أن يقدم لهم شيئا من جهة أخرى".
من جهته، يرى علوش أن "أهم ما قاله الأسد، هو أنه لا يزال مستعدا للشروع في عملية التطبيع إذا ارتكزت على مرجع واضح. وهذا ما تقوله تركيا أيضا".
"هناك صعوبة كبيرة في تدشين هذا المشروع لأن التوافق على مبادئ التطبيع هو المرحلة الأكثر حساسية. لا نستطيع أن نتحدث عن انتكاسة مشروع التطبيع لأنه لم يتجاوز بعد مرحلة استعراض النوايا والسقوف التفاوضية"، كما يقول علوش.
ويشدد الباحث، على أن "جانب رئيسي من الخطاب المتبادل مصمم لتعزيز الموقف التفاوضي قبل أي استئناف للحوار"، ويلفت إلى أنه "حين يصر الأسد على هذا الشرط ويتحدث في المقابل عن الانفتاح على الحوار، فإنه يرسل رسالة بأنه مستعد للتفاوض على هذا الشرط".
و"يدرك كل من أردوغان والأسد أن التطبيع يقابله أثمان سيتعين على الطرفين دفعها"، بحسب تعبير علوش.
"تخبط" ما بين روسيا وإيران
تعتبر كل من روسيا وإيران حليفا رئيسيا لنظام بشار الأسد الذي واجه ثورة شعبية عارمة انطلقت شرارتها الأولى عام 2011 وما لبثت أن تحولت إلى انتفاضة مسلحة بسبب القمع الوحشي الذي قوبلت به من النظام السوري، الذي وثق تحالفاته مع موسكو وطهران في غضون ذلك.
وفي حين تدفع روسيا بشكل علني وقوي مسار التطبيع بين تركيا والنظام السوري، فإن هناك تقارير تتحدث عن استياء إيراني من التقارب بين الأسد وأنقرة.
وكان السفير التركي لدى إيران، حجابي كرلانجيتش، تحدث عن الحاجة إلى تعاون بلاده مع طهران في ما يتعلق بتطبيع العلاقات بين أنقرة والنظام السوري.
وحول تباين الموقف التركي والإيراني من النظام السوري، قال كرلانجيتش في حديث مع وكالة "تسنيم" الإيرانية، إنه "ربما كانت لإيران وتركيا وجهات نظر مختلفة حول هذا الأمر، لكن على أية حال، هناك مشكلة حقوق إنسان في سوريا".
وكان أردوغان أشار إلى وجود لاعبين غير متسقين مع الموقف التركي على الصعيد الدولي والإقليمي، حيث طالب في تصريح سابق، كلا من الولايات المتحدة وإيران بأن "تكونا سعيدتين بهذه التطورات الإيجابية (مسار التطبيع) وتدعما العملية الرامية إلى إنهاء كل المعاناة (في سوريا)".
العبد الله، يرى في حديثه لـ"عربي21"، أنه "من الممكن ربط تخبط تصريحات النظام بالضغوط عليه من روسيا وإيران، فروسيا تلعب دور الوسيط الرئيسي في إعادة فتح قنوات الحوار له مع تركيا، بينما إيران غير متحمسة لهذا الأمر، وتريد الدفع بمسار الوساطة العراقية، فالتحديات التي يواجهها النظام في التنسيق بين حلفائه، تسهم في التخبط في التصريحات لديه".
ويضيف أن "الأسد يريد حالياً أن يلتقي بأردوغان ليأخذ صورة ويقول لجمهوره إن ألد أعدائه عاد للقاء معه، وأنه انتصر في الحرب، بينما لا يريد أن يقدم له شيئا بالمقابل، ويركز على التفاصيل والعودة إلى أساس اللقاءات والإضاعة بالتفاصيل".
أما علوش، فيؤكد أن "الأسد يصمم موقفه من التطبيع بالتنسيق مع الروس والإيرانيين"، مشيرا إلى أن "هناك انسجاما بين الأطراف الثلاثة في مقاربة مشروع التطبيع والأهداف المتصورة منه خصوصا في ما يتعلق بدور تركيا في الصراع".