مدونات

هلاك القرى

"55 مرة ذكرت القرية والقرى مع الهلاك والعذاب"- الأناضول
الانحراف

الانحراف في الإنسان أو قبول خداع نفسه باعتماد رأي بدوافع فؤادية من المشاعر والغرائز أو اتحاد المشاعر والغرائز معا؛ مع تغييب أعمال المنظومة العقلية واتخاذ القرار، هذا في الحقيقة ليس بلا إرادة أو اتباع لشخص أو فكرة، بل هو بإرادة كإرادة آدم عندما أكل من الشجرة لم يستحضر المعلومة ولم يستخدم منظومة العقل، فكانت إرادة لكن بلا عزم، أما واقعنا فيحصل فيه استعمار للمنظومة العقلية واستخدامها في التخطيط للانحراف والفساد، أو الخداع من أجل استغلال جهد الآخرين وكل ما يمكن أن يُنال وبكلام معسول أو بترهيب وتأليب.

لو تأملنا! فالإنسان المنحرف فاعل عندما تسير الحياة بلا تحديات أو اعتراض، وفاعل فيما يفعل من فساد ويعتقد راسخا أن من يمنعه عن ظلمه ظالم يستحق العقاب وخائن يستحق العذاب، لأنه مستمر في تسيد العاطفة وتفعيل أثر غريزة أو مجموعة غرائز، أي الإنسان يمتلك إرادته لكن بتقييم عاطفي وغرائزي تافه وليس بتفعيل المنظومة العقلية؛ فيبدو للآخرين أنه معتقد بكل الحالة التي يمر بها حتى هو أحد هؤلاء المقتنعين كما بيّنا في مظهره ودواخله، الحالة هنا فساد العزم في الإنسان أي قواعد التفكير وتحليل البيانات والنوايا، فبالتالي يكون هذا الإنسان شيطانا يبرأ إبليس منه لإصراره على الخطأ والرأي الواحد.

القرى هالكة والمدن معتبرة:
في النسق القرآني القرى تعذب وتهلك والمدن يخص العذاب بمن أساء، فالمدن فيها تنوع وشر وحسن، أما القرى فتطلق على الرأي الواحد والصنف الواحد المهيمن والمفسد، ويشترك أهلها في الفساد كسمة عامة

في النسق القرآني القرى تعذب وتهلك والمدن يخص العذاب بمن أساء، فالمدن فيها تنوع وشر وحسن، أما القرى فتطلق على الرأي الواحد والصنف الواحد المهيمن والمفسد، ويشترك أهلها في الفساد كسمة عامة. إذن القرآن يتحدث عن منظومة عقلية فاسدة ترفض الآخر والمخالف وتطرده أو تعذبه أو تقتله، وهنالك 55 مرة ذكرت القرية والقرى مع الهلاك والعذاب، والهلاك هو نهاية لا رجعة فيها ولا عودة: "وَحَرَامٌ عَلَىٰ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ" (الأنبياء: 95) بينما المجتمع المتنوع هنالك قوانين وانضباط وتعارف ومسار حياتي يتسق مع الغاية من الخلق والتعارف والإبداع وتحفيز المنظومة العقلية في درب الإصلاح.

فسعي الإنسان أن يقنع الناس لتؤمن بما يؤمن ليس عيبا وإنما العيب في الإجبار ونشر الكراهية والاضطهاد والظلم، سواء بالهمز واللمز أو التصريح أو التعذيب والقتل والترويع والتهميش، عندها يكون هنالك استئصال لهذه القرية لأنها وصلت حدا يصعب إصلاحها وأضحت مضرة للبشرية.

كونوا مثلي أو ارحلوا؛ هي قرية قوم لوط: "وَتِلْكَ الْقُرَىٰ أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِدا" (الكهف: 59) وهم على وضع من السوء، لكن الناس المتوحدين على العدل بالرأي والفكرة والتوجه هم قرى لكنهم مصلحون ومتفقون على الإصلاح بما يرضي الله؛ لا ضرر ولا أذى ولا تهميش ، ودوما تجد في الناس الذين يتفقون على رفض الآخر موانعَ الإصلاح من المتكبرين الذي فسدت منظومتهم العقلية: "وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ" (سبأ: 34)

إن هلاك الدول التي تتبع الشر والظلم يحصل في الدنيا قبل الآخرة حتما، وإن المدن المتنوعة قد يعذب الظالم منهم في الدنيا والآخرة لكنها تتداول الأيام بين صالح وطالح شرير لكنه ليس بالمنبت وإنما ظالم غير مجمع على ظلمه من أهل المدينة، وهنا ننتبه أن هنالك نوعا من التعدد والحراك للمنظومة العقلية وكل منها تحاسب وفق ما ارتكبت أو أحسنت..

القرية في القرآن لا تمثل مجمعات بشرية سكنية فقط، بل هي حزب يرفض الآخر ويظن أنه يمتلك الحقيقة، دول وأنظمة، أي مجموعة من أشخاص أو تنظيمات، بل حتى الفرد الواحد الذي يعيق مسيرة التعارف والبناء هؤلاء إزاحتهم بسلم رحمة لهم، فإن أصروا على المناكفة فسنن الكون لا تحابي والهلاك للقرى الظالمة مصير محتوم

الحقيقة من خلال استطلاع آيات المدن والقرى، نجد أن العذاب مرافق لتسمية القرى لأن منظومتها العقلية فاسدة، وأن الحساب فردي أو لجزء أيضا بسبب منظومتهم العقلية كإنذار للاتعاظ والتحول نحو الإصلاح والتطوير والتنمية، وتنقية المنظومة العقلية من المسيئات لها من ترهات وظلم وإنكار للحق وسلوك طريق الباطل، فهي منظومة يمكن أن تتوب وتعيد حياة طيبة صالحة وليست ممحوقة كالتي وُصفت في القرى. وما أكثر القرى في واقعنا وأندر المدن، في عالم يدعي الإسلام ظلما له وهو لا يفقهه، ويمارس أبشع الظلم بسبب الأفكار والاختلاف والأمور التي لا تصنع تنمية ولا رقيا. لذا أدعو للعودة لكلام الله وعدله، فعندما أوقف قوم يونس منظومتهم العقلية بدأت سلسلة العذاب ولما اتعظوا وآمنوا اختلف الأمر، فلعل الناس يتعظون: "فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَىٰ حِينٍ" (يونس: 98).

وهناك شعور المترفين بالتمكين وغفلة الفاسدين، وظلم الظالمين الذين لن يروا إلا الهلاك وبجنس ظلمهم: "وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا ۖ وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ" (الأنعام: 123).

التجديد والتحديث وإعمال المنظومة العقلية بالتفكير والارتقاء بها هو ما يبني المدن والمدنية، أما التخلف والركود ورفض الآخر والاهتمام ورفع ما لا يفيد مهمتك في عمارة الأرض؛ فهو فساد وهلاك: "وَكَذَٰلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ" (الزخرف: 23).

إن القرية في القرآن لا تمثل مجمعات بشرية سكنية فقط، بل هي حزب يرفض الآخر ويظن أنه يمتلك الحقيقة، دول وأنظمة، أي مجموعة من أشخاص أو تنظيمات، بل حتى الفرد الواحد الذي يعيق مسيرة التعارف والبناء هؤلاء إزاحتهم بسلم رحمة لهم، فإن أصروا على المناكفة فسنن الكون لا تحابي والهلاك للقرى الظالمة مصير محتوم.