نجا أمين عام
حركة الشعب التونسية من غربال الهيئة الانتخابية المنصبة فكان
ثالث ثلاثة يتهيئون الآن للانتخابات الرئاسية يوم السادس من تشرين الأول/ أكتوبر
2024. وسواء فاز بالمنصب أم وقف عند المشاركة في الاقتراع، فإنه يقدم نظريا للتاريخ
العربي الحديث حالة أولى، وهي أن زعيما سياسيا ذا توجه قومي عربي، يطلب السلطة على
ظهر صندوق انتخابي وليس على ظهر دبابة. هل تكون السابقة التاريخية للقوميين العرب
من بلد، يعد عندهم بلدا طرفيا غير وازن في حجم الأمة وفي تاريخها؟ فالقوميون
العرب مشارقة أولا يكملون وهْم القومية بعرب المغرب والسودان، وبعض تشاد والصومال
والأهواز؛ مركزية عرقية تتخفى بخطاب قومي.
إن الحيرة السياسية التي يعيشها التونسيون قبل الذهاب إلى الصندوق قد تعمل
لصالح المرشح القومي العربي فيمر في غفلة، ولكن غير الغافلين من الناس لا يتذكرون
لهذا المرشح سيرة ديمقراطية منتظمة منذ الثورة على الأقل، كما أن تاريخ
القوميين
العرب منذ الخمسينيات، وهو تاريخ لا يذكره التونسيون بخير، يقع في هذه اللحظة
السياسية على كاهل المرشح الذي لا يتنصل من انتمائه القومي. فبأي أرصدة يدخل
السباق؟
شخص عادي لم يلمع بأي بريق
عند انطلاق الثور،ة كان القوميون من قادتها في تونس وتحدثوا بحماس عن الربيع العربي باعتبارهم من صنّاعه، ولكن بعد خوض انتخابات مصر، وخسارة التيار القومي أمام الإخوان لحس القوميون في مصر، وفي تونس خطاب الربيع العربي، وتكلموا عن المؤامرة الدولية على الأمة وعن الربيع العبري بقيادة برنار ليفي.
السيد الأمين العام المرشح شخص عادي بمقاييس الزعامة السياسية، خارج
مجموعته السياسية لا يملك أية جاذبية أو كاريزما. حاز تعليما متوسطا واشتغل مدرسا
بالثانويات، ومارس العمل النقابي في حدود مؤسسته، ولم يترق في سلم قيادات النقابة.
لم يكتب أدبا ولا نشر مقالات سياسية، ولم يعرف في الأوساط الفكرية بأية حضور لافت؛
حضوره الإعلامي مهذب ويحسن الدفاع عن أفكاره، لكن بلغة مدرسية أقرب إلى أسلوب تعليم
الصبيان. يحمل كل سمات الفتى الجنوبي؛ التواضع والحياء، وهي خصال أرصدة، لكنها في
تونس تعد عاهات سياسية، وعليه مواجهة خطاب تمييزي جهوي يتخفى في خطاب الوطنية
الفضفاض. وقد تعرض له قبله من حكم بعد الثورة، وساهم هو بالذات في ترويج ذلك؛
بتحالفات مبنية على عقد نقص لم يعالجها حتى مثقف التيار القومي ممن قبل وزارة مع
النهضة (الإخوانية)، وحكم باستقالة موضوعة على طاولة رئيس الحكومة، دون أن يتخلى عن
راتب الوزير.
داخل التيار القومي في تونس، لم يفلح المرشح في توحيد التيار في كتلة سياسية
واحدة، بل ساهم في انقسام حركة الشعب الديمقراطية التي ضمت تياره إلى التيار
الشعبي (وهي فرقة قومية أخرى). وبقي خارج هذين الاسمين قوميون آخرون من غير التيار
البعثي، فهناك أنصار للقذافي، وهناك ناصريون يرفضون عصمت سيف الدولة، وهناك فِرق
أخرى يصعب حصرها لغياب ذكرها، إذ نعثر عليها بالصدفة في مقال أو بيان أو نعي مؤسسها
(ويكون غالبا حاملا لدبلوم من جامعة سورية أو عراقية بمنطق أدليه عايز خدمة في
بلده)، فضلا على أن خطاب التخوين متفش بين هذه المجموعات وصراعاتها البينية، تكشف
عجزا تاما عن الاتفاق حول أية أهداف مرحلية.
وهذه الفُرقة لا تجعل منه زعيما قوميا في بلده، بل مجرد أمين عام فرقة من
الفرق لم يعلم الناس من حولها حجمها في الشارع، فقد تملص من الميزان الشعبي في
مرحلة التزكيات، فجمع عشر تزكيات نيابية كانت كافية ليُقبل شكليا لدى الهيئة.
فضلا عن ذلك، فحركة الشعب مقسومة من الداخل بين فرقتين تتماسكان بصعوبة؛
فرقة الأساتذة الذين جاؤوا من الجامعة ومنهم الأمين العام، وفرقة كانت في حزب
كرتوني مما صنع بن علي، وكلفهم بمعارضته بمقابل مالي (أحزاب السمسونايت)، وهؤلاء
يجذبون الحزب دوما ليكون في كنف السلطة، بينما يعمل الأساتذة على التميز ضمن معارضة
سياسية ذات برنامج. وعندما شارك الحزب في السلطة بعد
انتخابات 2019، فازت جماعة
السمسونايت بالوزارات، وبرر الأساتذة التنازلات بالحفاظ على بنية الحزب مرحليا.
سيرة سياسية لا توحي بالثقة
بالأرصدة السياسية المذكورة آنفا، نستعرض سيرة المترشح، فنجد سيرة سياسية لا
توحي بالثقة. فعند انطلاق الثورة كان القوميون من قادتها في تونس، وتحدثوا بحماس عن
الربيع العربي باعتبارهم من صنّاعه، ولكن بعد خوض انتخابات مصر وخسارة التيار
القومي أمام الإخوان لحس القوميون في مصر وفي تونس خطاب الربيع العربي، وتكلموا عن
المؤامرة الدولية على الأمة وعن الربيع العبري بقيادة برنار ليفي (مقال حسنين هيكل
في الأهرام في شباط/ فبراير 2012).
من العسير على الجمهور المسيس الذي لا تقوده الدعاية الإعلامية أن يسلم للمرشح بتوبة سياسية، وسيحمّله من ثم كل وزر إسناد الانقلاب على كتفيه؛ بما يجعله منقلبا ثانويا تحت المنقلب الرئيسي، ولا يبقى له إلا أن يساند الأول إذا كُتب له المرور إلى دور ثان.
وعندما انقلب العسكر المصري على التجربة الديمقراطية، وجدنا القوميين ومنهم
حركة الشعب في مقدمة المرحبين بالمنقلب باعتباره عبد الناصر الثاني، بل إن المنشق
حفتر حظي لدى القوميين بمكانة عظيمة. وقد مر وقت طويل قبل أن تنخفض لهجة الحماس
للانقلاب، ويتظاهر القوميون بالخجل من سيرته، خاصة بعد حرب الطوفان الفاضحة.
في تونس، شاركت حركة الشعب في الانتخابات وفازت بمقاعد نيابية في فترة 2014-2019
وفي فترة 2019-2021، وشاركت في توليف حكومة الرئيس، وهي فكرتهم التي تم بها كسر
مبدأ دستوري بأن يؤلف الحزب الأول الحكومة؛ ولكن لأن الحزب الأول إسلامي، فإن حركة
الشعب وقفت مع الرئيس لكسر المبدأ وكان لها ما أرادت. ثم سارت سيرة المنقلب في
الاعتداء على الدستور حتى قام بحركة 25 تموز/ يوليو الانقلابية، فكانت الحركة
وأمينها العام في مقدمة أنصاره، ولم تنفك تحميه في كل ظهور إعلامي وفي كل مناسبة
للتحرك ضده، حتى داخل النقابات كانت الحركة تعارض، وتعد كل معارضة للرئيس صب ماء
في طاحونة الإخوان.
أول خطوة بعيدة عن الانقلاب كانت إعلان الترشح للانتخابات الرئاسية القادمة
ضد الرئيس، وقد بدا الأمين العام في خطاب الدعاية، وهو يقول جملا أشد قسوة على
الرئيس مما كانت تقوله المعارضة (بمن فيها حزب النهضة)، بل يذهب إلى إدانة الفعل
الانقلابي الذي كان صلبه، ويعده اعتداء على الديمقراطية. هذا الانقلاب في الخطاب
بـ180 درجة سبب كاف لفقدان الثقة بهذا المرشح؛ إنها استفاقة متأخرة وتُقرأ
كاستفاقة منافقة للجمهور، خاصة أنه لم يسبقها نقد ذاتي عميق وصريح وبصوت مسموع جدا
لمرحلة إسناد الانقلاب، وهو كلام لم ينطقه المرشح ولا نظنه يفعل.
من العسير على الجمهور المسيس الذي لا تقوده الدعاية الإعلامية أن يسلم للمرشح
بتوبة سياسية، وسيحمّله من ثم كل وزر إسناد الانقلاب على كتفيه؛ بما يجعله
منقلبا ثانويا تحت المنقلب الرئيسي، ولا يبقى له إلا أن يساند الأول إذا كُتب له
المرور إلى دور ثان، فالتونسيون رغم فرقتهم يفرقون بين النسخة الأصلية والنسخة
الكاربونية.
نجزم قبل الموعد بأن هذا المرشح نسخة كاربونية من الانقلاب ترشح ليفاوض على
حصة من السلطة بعد فوز النسخة الأصلية، وهذه الحركة لا تختلف في شيء عن نيل السلطة
على ظهر دبابة.
هذا المرشح يدخل على التونسيين المتعلمين بكل رصيد فشل قوميي الشرق العربي، وعليه قبل أن يحدثهم عن تونس العربية أن يحميهم من الشرق العربي، الذين علموا العرب تقنية الانقلابات العسكرية وخطاب الإنقاذ.
إعلان نعي القوميين العرب في تونس
القومي العربي الذي فقد الدبابة لن يصل إلى السلطة، لقد تكلم بتحرير فلسطين
لمدة سبعين سنة، ولم يقدم لفلسطين سوى نايف حواتمة، وانتهى ملف فلسطين عند حماس
الإخوانية التي تُثخن في الصهاينة.. وحدّثوا العرب عن توحيد الأمة العربية فانتهوا
ينتظرون نجدة إيرانية لنصرة العرب، وحدّثوا العرب عن الاشتراكية فانتهوا يبيعون
مصر للإمارات، ولا يمكن بحال حماية قوميي تونس من عاهات قوميي الشرق، فالعرق دساس.
هذا المرشح يدخل على التونسيين المتعلمين بكل رصيد فشل قوميي الشرق العربي،
وعليه قبل أن يحدثهم عن تونس العربية أن يحميهم من الشرق العربي الذين علموا العرب
تقنية الانقلابات العسكرية، وخطاب الإنقاذ (ولن يفعل فقد سار سيرتهم)، وهو يحمل عاهات
السيسي السياسية على كتفيه.
سيكون لانتخابات تونس المضروبة مزيّة إعلان نهاية المرشح باسم القومية
العربية، فتونس كانت عربية قبل ظهور خطاب القوميين العرب، مثلما كانت إسلامية قبل
ظهور خطاب الأسلمة الإخواني، وقد كانت تقدمية سبّاقة قبل ظهور اليسار الفرانكفوني..
هل هذه جمل تمجد القُطرية؟ أبدا، هذه جمل تحرر من ترهات الخطاب القومجي، وعلى مدرس
الثانوية أن يعود إلى السبورة والطبشور، ويطلب تقاعد مريحا براتب مدرس تعليم ثانوي..
هذا مكان مريح.