مثلت
الأنفاق أو ما يعرف بـ "ميترو
غزة" كلمة السر للمقاومة الفلسطينية في الحرب الطاحنة الدائرة بالقطاع، إذ عجز
الاحتلال بعد دخول المعارك شهرها العاشر عن فك شيفرتها أو حتى التعامل معها.
ويبدو أن
المقاومة الفلسطينية كانت قد جهزت نفسها لمعركة طويلة الأمد، يكون الاستنزاف عنوانها الأول، والأنفاق وسيلتها الناجعة، ويبدو ذلك جليا بعودة عقارب ساعة الحرب للوراء عندما تندلع المعارك في مناطق سبق للاحتلال دخولها وإعلانها خالية من المقاومة.
الغالبية "سليمة"
ورغم أطنان القنابل التي ألقاها الاحتلال على غزة، حتى مُسحت مناطق كاملة في القطاع، إلا أن شبكة الأنفاق لا تزال في الخدمة، ويتفاجأ الاحتلال كل مرة بتوسعها وفاعليتها.
مصدر مقرب من القسام أكد لـ "عربي21”، أن "النسبة الأكبر من أنفاق المقاومة لا تزال سليمة ولم تتعرض للضرر".
وقال المصدر الذي رفض الكشف عن هويته، إن المقاومة عملت طوال السنين الماضية، على تصميم شبكة أنفاق لمثل هذه الحرب، حيث تدرك القسام قدرات الاحتلال وإمكانيته التكنولوجية العالية، لهذا حاولت قدر الإمكان تحصين الأنفاق وتصميمها بطريقة تحيل التفوق العسكري للاحتلال إلى تراجع.
وأكد المصدر، أن 90 بالمئة من الأنفاق التي صورها الاحتلال وتفاخر بكشفها، هي بالأساس مصنفة خارج الخدمة فإما أن تكون للاستخدام مرة واحدة وقد انتهى العمل منها، أو إنها مخصصة لاستدراج جيش الاحتلال أو إنها مكشوفة لتغطي على الأنفاق الداخلة بالخدمة.
وتابع، بأن الاحتلال يعي تماما وجود أنفاق تتيح التنقل بين مناطق القطاع المختلفة سواء في الجنوب (من خانيونس إلى رفح) أو الشمال، لكنه عجز حتى الآن عن اكتشاف نفق واحد من هذه الشبكة الكبيرة.
وأردف المصدر، أن "الاحتلال يكذب بزعمه العثور على جثث بعض الأسرى داخل الأنفاق، فجلهم استهدفوا خلال عمليات نقلهم من مكان لآخر أو عند تواجدهم المؤقت في إحدى المواقع فوق الأرض".
وأوضح، أن "المقاومة تدير المعارك بكفاءة عالية بفضل الأنفاق التي تتيح الضرب في مناطق دخلها الاحتلال ودمرها منذ الأشهر الأولى للحرب، خصوصا في الشمال ومدينة غزة، حتى بات الاحتلال حائرا أمام المقاتلين الذين يخرجون من مناطق قد سويت بالأرض تماما مثل الشجاعية وبيت حانون وبعض أجزاء تل الهوى.
ووفقا للمصدر، فإن "المقاومة حفرت أنفاقا خلال الحرب وجهزت أخرى للقيادة والرصد فضلا عن الأنفاق المعدة مسبقا".
وختم قائلا: "صحيح أن الحرب طاحنة وكمية النار الموجهة والملقاة على القطاع كبيرة إلا أن المقاومة لا تزال تدير المعارك بإمكانيات تقترب من تلك التي كانت في اليوم الأول للحرب، والدليل عملياتها المستمرة، حتى إن تلك التي تخرج للإعلام لا تمثل إلا جزءا يسيرا من الحقيقة".
الإقرار بالعجز
ويطابق حديث المصدر المقرب من المقاومة، الاعترافات المتوالية لجيش الاحتلال بفشل التعامل مع أنفاق المقاومة، التي كان آخرها حديث ضابط رفيع المستوى للقناة 12 العبرية، عن المفاجآت الكبيرة حول شبكة "ميترو غزة".
ونقلت القناة عن الضابط، قوله إن حركة حماس خاضت معركة دفاعية منظمة من تحت الأرض بفضل الأنفاق، مضيفا أن الأنفاق "كشبكة عنكبوت إذا قطعت واحدا فهناك أنفاق بديلة يمكنها الاستمرار في أداء مهمتها".
وتابع، "فوجئنا بقدرة حماس الهندسية كالمصاعد وفهم التربة وكيفية ترابط الأنفاق، مبينا أن إسرائيل ليست لديها صورة كاملة عن الأنفاق بعد 9 أشهر من الحرب، كما أنها لم تُحكم قبضتها عليها.
وأردف الضابط، بأن "حماس" عرفت كيفية نقل المقاتلين ووسائل لوجستية إلى أي منطقة في قطاع غزة من تحت الأرض، موضحا أنها تمكّنت من الاختفاء تحت الأرض، وشنّت هجمات مفاجئة بشكل متزامن.
واشار إلى أن "التفكيك الشامل لحركة حماس وإعادة تشكيل الواقع الأمني يتطلبان قتالا مستمرا وطويل الأمد".
حديث الضابط يتطابق مع تأكيد قائد اللواء الـ12 الإسرائيلي هيفري الباز، عندما أكد أن تفكيك القدرات العسكرية لحركة حماس، في رفح جنوب قطاع غزة، سيستغرق عامين آخرين على الأقل.
وأضاف، أن مهمة القضاء على كتائب القسام -الجناح العسكري لحركة حماس- ليست سهلة، والأمر يتطلب وقتا وضغطا عسكريا كبيرا.
الغرق بالفشل
منذ الأيام الأولى للحرب تحدث الاحتلال عن خطة محكمة ومدروسة لحل معضلة الأنفاق للأبد، تتمثل في إغراقها بمياه البحر.
وأنشأ جيش الاحتلال مضخات مياه عملاقة في تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي، وخصص قوات عسكرية للإشراف على المهمة.
واليوم بعد مضي أشهر على الخطة، فقد جاء الإعلان عن فشلها في تقرير لصحيفة هآرتس العبرية.
وكشفت
هآرتس، تفاصيل مثيرة، عن فشل ما أطلق عليه جيش الاحتلال "مشروع أتلانتس"، أو عملية إغراق أنفاق المقاومة في غزة، وصار بمثابة فشل عسكري معروف، لم يوقفه أحد إلا بعد فوات الأوان.
وقالت الصحيفة إن المشروع كان من المفترض أن يغير قواعد الحرب، ويشكل ردا سريعا وقاتلا، في إحدى الجبهات المعقدة داخل قطاع غزة، حتى وصفه الجيش بالاختراق الهندسي والتكنولوجي الكبير.
وأضافت: "لكن بعد نحو نصف عام، من الكشف للجمهور عن النظام، فإنه بات من الواضح أن أتلانتس، ضاع، ولم يعد قيد الاستخدام، ولا أحد في الجيش يمكنه أن يصرح بما هي الفائدة من ورائه، إن وجدت، أو ما حققه ذلك المشروع باهظ الثمن".
وأشار مصدر أمني، إلى أن قائد القيادة الجنوبية طالب بإيجاد حلول للمس بمقاتلي حماس في الأنفاق، وكان هناك إحباط لأن القوات لم تكن تعتقد أنها ستبدأ بالدخول إلى جميع الأنفاق، خاصة أنهم تعرفوا على أنفاق لم يكن لدى المخابرات علم بها والجيش كان في طور التعرف على ما سيواجهه في غزة، ووجود مئات الكيلومترات من الأنفاق.
وكشفت أن الجيش، لم ينتظر الاستنتاجات، وانتقل إلى مرحلة ضخ المياه فورا، واختيرت الفرقة 162 كمقاول تشغيلي وأعمال البنية التحتية، أوكلت إلى مقاتلي اللواء الثالث عشر، والذي تحول إلى وحدة للأنابيب خلال أسابيع.
وقالت الصحيفة، إن فرقة كاملة من جيش الاحتلال، تم تحييدها بالكامل، على مدار شهر ونصف في منطقة قتال، وتحول الجنود إلى سباكين، في مشروعه ليس لدى الجيش أي فكرة عما إذا كان له جدوى، أو يعرف كيف يعمل وما يحدث داخل الأنفاق أو للمقاتلين بداخلها، وحتى ما إذا كان هناك أسرى.
وقالت إن الجيش نصب 5 مضخات على شاطئ بحر غزة، وبدأوا بالضخ عبر أنابيب، وفي وثيقة ورد أنه وبعد 3 أسابيع من العمل، لم تتم العملية وفقا لتوصيات متخصصين، والجيش ضخ المياه دون آلية لتقييم الإنجاز العملياتي والنتيجة التي خلصوا إليها كتب فيها: "في الواقع لا نعرف إلى أي مدى كانت العملية ناجحة".
ونقلت عن ضابط كبير شارك في النقاشات داخل الغرفة المحصنة في وزارة حرب الاحتلال قوله: "كان هناك من يتساءل كيف تتغلب حماس على مياه الأمطار في الأنفاق كل هذه السنوات، وكيف يمكن أن الأنفاق لم تغمرها المياه؟".
وأضاف الضابط: "القيادة أدركت في مرحلة مبكرة، إلى حد ما، أن المشروع لن يدوم طويلا، وسيصبح فيلا أبيض (كناية عن المشروع الفاشل الذي يتحول إلى عبء على صاحبه)، وبدأت المنشورات عنه، وأحضرت وسائل إعلام لتصويره، وكان المقصود بين السطور حربا نفسية، ودفع المقاتلين إلى الخوف والمغادرة من الأنفاق، خاصة وأنه لم يؤد إلى النتيجة التي أرادوها".
وقالت الصحيفة إن الجيش وعلى مدار الأسابيع الأولى للمشروع، حاول إبقاء الأمر طي الكتمان، بعد أن فهم منذ اللحظة الأولى، أن غمر الأنفاق التي قد يكون فيها أسرى، سيقابل بانتقادات شديدة من أهاليهم.
وأشارت إلى فضيحة لقائد الأركان والناطقين باسم الجيش، بسبب إشاداتهم بالمشروع، حيث قال هاليفي في بداية العدوان، إنه "فكرة جيدة"، والناطق باسم الجيش تحدث بإسهاب عن ميزاته، أنه عمل احترافي.
جحيم تحت الأرض
وتعد المعلومات عن الأنفاق شحيحة للغاية سوى ما تكشف عن المقاومة أحيانا أو تقديرات جيش الاحتلال.
ولا يعلم تحديدا طول الأنفاق في غزة، إلا أن تقديرات أمنية "إسرائيلية" تقول، إن طول شبكة الأنفاق الإجمالي بقطاع غزة، قد يصل إلى أكثر من 700 كيلومتر، وتحديدا بين 560 و725 كيلومترا.
ووفقا للتقديرات فإن هناك حاليا حوالي 5700 فتحة في جميع أنحاء القطاع، تؤدي إلى شبكة الأنفاق.
وذكرت وسائل إعلام نقلا عن مصادر عسكرية مطلعة، أن شبكة الأنفاق تقسم إلى نوعين، تلك المعدة لقيادة العمليات ورسم الخطط وتخزين الأسلحة، فيما يعرف النوع الثاني بالأنفاق العملياتية، غير المهيئة للإقامة الطويلة.
من جهته، يقول العميد يعقوب نيجل، الرئيس السابق لمجلس الأمن القومي في حكومة الاحتلال، إن الأنفاق أطول، وربما تبلغ ألوف الكيلومترات.
وأضاف في تصريحات بداية الحرب، إن "الكلام يكون دقيقا أكثر إذا تحدثنا عن ألوف الكيلومترات، وهذه الأنفاق بُنيت على طريقة كوريا الشمالية، التي تعد رابع أو خامس قوة عسكرية في العالم، وأنفاق غزة أكبر شبكة من نوعها في العالم بعد شبكة كوريا الشمالية".
وأوضح أنه "سيكون من الصعب الاعتماد على الروبوت بداخلها، لأن الروبوت لا يعمل بهذا العمق تحت الأرض، والقتال داخل الأنفاق شبه مستحيل".
وطوال عقد من الزمن حاول الاحتلال حل معضلة الأنفاق دون جدوى، إذ عثر على أول نفق هجومي في تشرين الأول/ أكتوبر 2013، بطول 800 متر، يبدأ في الحي الشرقي لخانيونس، ويمتد 100 متر داخل الغلاف، وعلى عمق 20 متراً تحت الأرض، فيما يصل عرضه وارتفاعه إلى مترين.
والآن بعد مرور 11 عاما على اكتشاف النفق الأول، يبدو الاحتلال عاجزا عن دخول مئات الأنفاق من مثيلاته في غزة التي أعدتها المقاومة طوال الفترة الماضية، لمثل هذه الأيام.