في السابع من
كانون الأول/ ديسمبر ١٩٨٧، في فناء سجن "ليمان طرة"، كنت قد اعتدت أن أتمشى
رفقة صديقي "أبو بكر عثمان"، رحمه الله تعالى رحمة واسعة، وذلك بعد فتح أبواب
الزنازين في السابعة صباحا، حيث كنا نقيم حلقة يومية، نراجع فيها القرآن معا، وذلك
على مدى ساعتين، قبل أن يُنادى للإفطار الجماعي، الذي كان المعتقلون ينظمونه، والذي
كان يعبر عن صورة من صور الحكم الذاتي، التي نجحنا في فرضها على نظام
السجون آنذاك.
وكان يتخلل حلقة القرآن
تمشية لعدة دقائق، نتحاور فيها حول آخر المستجدات السياسية في
مصر والمنطقة والعالم،
وكان صديقي معنيا بمتابعة الشئون الإقليمية، بينما كنت شغوفا بمتابعة الشئون الدولية،
وفي احداها التي كانت في السابع من كانون الأول/ ديسمبر ١٩٨٧، قبل انطلاق الانتفاضة
الفلسطينية بيوم واحد، إذا بي أقول لصاحبي دون تفكير أو تدقيق: لماذا لا تنفجر الأوضاع
في فلسطين الآن، فكل الأوضاع تؤدي لذلك؟ وإذا به يوافقني دون تردد، وإذا بها تنفجر
فعلا في اليوم التالي، وهو ما بشرني به صديقي، الذي كان يواصل متابعة الأخبار طوال
اليوم، عبر "ترانزستور" يكون في الغالب مهربا داخل السجن، أو مسموحا به أحيانا
حسب المزاج العام لوزير الداخلية، وحسب قدرتنا بطبيعة الحال على فرض إدارتنا الذاتية.
لم أستطع أن أتمالك
نفسي، وأنا ألتهم يوميا أخبار الانتفاضة، وأتابع كل يومياتها وساعاتها بشغف شديد، وقد
كانت تنقل أخبارها كل وكالات الأنباء العالمية، لقد شعرت مع بشريات الخبر الأولى أني
ولدت من جديد، أو أني قد ولد لي ابن عظيم، وأني أنتظر له مستقبلا باهرا، فقد جاء في
موعده، وأصبحت كل الظروف مهيئة لاستقباله، وخاصة أن أنشطة الحركات الإسلامية قد أصبحت
حاضرة بقوة في الشارع العربي، وكان حضورها لافتا في كل العواصم العربية، وأنها قد بلغت
مبلغا مهما، وخاصة في مصر.
الحركات الإسلامية بالضرورة، ووفق مقتضيات كثيرة، هي التي يجب أن تُعنى بالصراع العربي الإسرائيلي، بعد أن تخلت عنه الحكومات، وأن القضية الفلسطينية هي بالضرورة هي قضيتها الأولى، ضمن "مشروع استئناف مسيرة الحضارة الإسلامية"، المشروع الذي تم تجهيز الكيان الصهيوني، وتمت زراعته في المنطقة لتعويقه وتعطيله
فالحركات الإسلامية
بالضرورة، ووفق مقتضيات كثيرة، هي التي يجب أن تُعنى بالصراع العربي الإسرائيلي، بعد
أن تخلت عنه الحكومات، وأن القضية الفلسطينية هي بالضرورة هي قضيتها الأولى، ضمن
"مشروع استئناف مسيرة الحضارة الإسلامية"، المشروع الذي تم تجهيز الكيان
الصهيوني، وتمت زراعته في المنطقة لتعويقه وتعطيله.
شعرت بمسئولية كبيرة
تجاه الانتفاضة الفلسطينية الأولى، برغم تواجدي خلف أسوار المعتقل، وأحسست أنني لا
بد وأن أشارك فيها بأي صورة، ودفعني ذلك لكي أبدأ بشكل يدوي، في تصميم "مجلة"
صغيرة مكونة من عدة صفحات، على غلافها شاب فلسطيني يقذف الآليات الإسرائيلية بالحجر،
وكتبت على الغلاف فوقها: "هل يُهزم هذا البطل؟!"؛ عنوان تفتق له ذهني، وعبر
عن أشواقي وتحريضي لشعوبنا، كي تتضامن مع هذه الانتفاضة المهمة، والأمل الجديد في الانتصار؛
الذي بُعث عبر المقابر التي شيدتها السياسة العربية.
وقد نجحت في تهريب
المجلة من السجن، لتصل لبعض الطلاب في جامعة القاهرة، لكي يقوموا بتصويرها وتوزيعها
بين الطلاب.. يومها شعرت أني أرحت بعض ضميري، وأني لا زلت حاضرا في شوارع القاهرة،
بل وبين طلاب جامعتها التي كانت تمور بأنشطة طلابية لا تتوقف.
نجحت بعدها في تهريب
كاسيت لداخل السجن، وجهزت له مخبأ داخل زنزانتي، حتى يكون من السهل استعماله، بعد الإغلاق
اليومي للزنازين في الخامسة بعد العصر، وحتى صباح اليوم التالي، وقد كانت لائحة السجون
الموروثة من الاحتلال البريطاني، توجب يومها عدم جواز فتح الزنازين ليلا، وذلك حتى
لا يتعرض المسجون للترهيب، وتكون فترات نومه في مأمن من بطش السجان!
نجحت في استثمار هذا
الكاسيت، في تسجيل عدة حوارات سياسية وقانونية ذات طابع جماهيري، مع زملائي المعتقلين،
وكانت تتعلق أساسا بالانتفاضة والفلسطينية، وواجب الشعوب العربية والإسلامية تجاهها،
فضلا عن إدانة الحكومات العربية التي تكتفي بمجرد المشاهدة، ولا تتجاوز إصدار بيانات
الاستنكار المعتادة، كما نجحت أيضا في تسجيل حوارات توثيقية عديدة، حول التعذيب في
السجون المصرية، وخاصة أننا كنا يومها بصدد تحويل ضباط التعذيب الـ٤٤ للمحاكمة، وهو
ما لم يحدث من قبل في مصر، ولم يحدث بعدها.
وبينما كنت أقوم بتهريب
أحد شرائط هذه الحوارات، في يوم زيارتي لأسرتي، إذا بضابط أمن الدولة بالسجن، ومعه
عدد من المخبرين، يداهمون موقع زيارتي ويطلبون تفتيشي، فيما بدا واضحا أنهم على علم
بأنشطة الكاسيت، والحوارات التي أقوم بها. اعترضت على التفتيش، فحاول ضابط أمن الدولة
إقناعي بأن هذا إجراء احترازي، وأن سببه هو شريط كاسيت يتم تداوله في القاهرة على نطاق
واسع، تضمن حوارا بيني وبين أحد القيادات بالسجن، وذلك بخصوص الانتفاضة الفلسطينية،
وأن التعليمات هذه المرة جاءت من رئاسة الجمهورية، ومن المستحيل تجاهلها.
كان لدينا في تلك
المرحلة مندوب يمثلنا في موقع الزيارات، لتنظيم أمور المعتقلين وزائريهم، ويمنع الاحتكاك
بينهم وبين الحراس والمخبرين، فأدرك ما يجرى، وبينما خرج ضابط أمن الدولة ليتصل بالتلفون
الأرضي، الذي لم يكن غيره يومها، وذلك للتشاور مع رؤسائه، إذا به يشير إليّ كي أعطيه
الشريط الذي معي، وهو ما قمت به بسرعة، فأخذه وانطلق به عائدا تجاه "العنبر السياسي"،
وما أن عاد الضابط مصمما على التفتيش، إلا وأظهرت موافقتي، وتم التفتيش فعلا ولم يجد
شيئا.
جاءت التعليمات بعدها
بالعثور على الكاسيت بأي طريقة، وهو ما أربك إدارة السجن التي اتخذت عدة إجراءات، كان
من بينها استقدام عمال بناء معهم "كمبروسر" لحفر زنزانتي، بحثا عن الكاسيت،
ولحسن الحظ لم يجدوه، لأن أحد الزملاء الفنيين كان قد أعد له مكانا أمينا، داخل تجويف
بكرسي خشبي صغير، يوضع عند الضرورة في حمام الزنزانة، وكأنه لاستخدام الحمام، ويتم
إدخال الكاسيت فيه وإخراجه عند الحاجة بسهولة.
بعدها بعدة أسابيع،
في كانون الثاني/ يناير ١٩٨٨، كان لدي امتحان في جامعة القاهرة، وكانت الامتحانات يومها
تؤدى بمدرجات الجامعة، وفق لائحة السجون، وعلمت قبل الموعد بعدة أيام أن الطلاب
الإسلاميين
والناصريين ينظمون وقفة أمام كلية الحقوق، وطلبوا مني الاستعداد لإلقاء كلمة من فوق
سلم الكلية، وذلك أثناء الدخول إليها، حيث ستتم دعوة الطلاب من الكليات المجاورة، وإن
كان ذلك بحذر، وهو ما يجب أن يراعي بطبيعة الحال أن الأمن سيعمل على عرقلة ذلك، من
خلال الحراسات التي كانت كثيفة.
وكانت خلفية الموقف
بالغ الأهمية من قبل الطلاب الناصريين، والذي يندُر أن تجد مثله على الساحة السياسية
الآن التي نجح الاستقطاب المصنوع في تلغيمها بالاستقطاب السياسي والأيديولوجي، هو تقديرهم
للبيان الذي أصدره أخي "عبود الزمر" قبلها بعدة أسابيع، يطالب بالإفراج عن
"محمود نور الدين"، قائد تنظيم "ثورة مصر"، والمطالبة بتكريمه،
بدلا من محاكمته والمطالبة بإعدامه، وهو ما كان مستحيلا إلا عبر "هتافات"
عبروا فيها عن دعمهم لموقفنا، وتضامنهم مع محنتنا بالسجون.
أخذت أفكر كيف يمكن
استثمار هذه الدقائق المهمة خارج السجن، ومن قلب جامعة القاهرة، وخاصة ما يمكن أن أقوله
في كلمتي للطلاب في تلك الأيام، التي تشعل فيها الانتفاضة الأراضي الفلسطينية، والتي
كانت تواجهها حكومة "رابين" بتكسير العظام، فلم أجد أبلغ من كلمة قصيرة تطالب
بالتضامن مع الانتفاضة، عبر محاصرة السفارة الإسرائيلية والمطالبة بطرد سفيرها، وقد
كانت يومها في مواجهة جامعة القاهرة، وقريبة من المكان المزمع وقوفي به لإلقاء كلمتي،
حيث كانت في مواجهة ساحة جامعة القاهرة، على أحد جانبي كوبري الجامعة.
أثناء تشاوري مع أخي
عبود، حول كيفية تنفيذ هذه الخطة، أفادني بخبرته العسكرية، أن القاء هذه الكلمة من
المستحيلات، لأن أجهزة الشرطة باللباس المدني التي تصاحب الامتحانات، مدربة على التعامل
الحركي المرن، والحيل الذكية غير اللافتة، لتدارك أي إخلال دون أي صدام، وهذا تدريب
خاص يتم تجهيزه لمثل هذه الأماكن الحيوية.. وبرغم اقتناعي بتقدير أخي عبود، إلا أنني
شعرت أن الواجب تجاه الانتفاضة، واستثمار هذه الفرصة، يوجبان المحاولة، فإذا لم أوفق
للعمل، فيكفي شرف المحاولة.
استقبلني قائد قوة
الترحيلات في فناء سجن ليمان طرة بابتسامة عريضة، وعرفني بنفسه على غير المعتاد، وذكرني
بالعديد من أقاربي الذين يعرفهم، وبينهم أحد كبار الضباط الذي درس على يديه بكلية الشرطة،
كما عرفني بأنه ملحق اليوم بشكل استثنائي من مديرية أمن الجيزة. وكان من الواضح أنه
على درجة عالية من الذكاء والدبلوماسية، فأمر بعدم وضع "الكلبشات" في يديّ،
وأمر أحد صغار الضباط أن يصاحبني داخل سيارة الترحيلات.
ما أن وصلت سيارات
الترحيلات لبوابة جامعة القاهرة، إلا وشعرت بالتوتر يملأ ساحتها الرئيسة، وأن أعدادا
كبيرة من الطلاب تكاد تحاصر مبني كلية الحقوق في قلب ساحة الجامعة، وهم يهتفون لفلسطين.
استطاعت القوة الشرطية ذات اللباس المدني أن تشق بي هذه الحشود باحتراف واضح، نحو المدخل
الرئيس للكلية، وقد حاولت أثناء ذلك وفقا لخطتي، أن أقف ولو لحظات على السلم الكبير
المواجه للطلاب لكي ألقي كلمتي، لكن كاردونات الشرطة المدنية التي كانت تحاصرني، والتي
كانت في عدة أطواق، تدور عكس بعضها بشكل متقن، في ذات الوقت الذي تتحرك بشكل تلقائي
عبر بوابة الكلية، وهو ما حال بيني وبين التمكن من إلقاء جملة واحدة.. وفي ذات المرحلة،
حاول شباب الجماعة الإسلامية، أن ينظم اعتصاما في ميدان التحرير، في اكتشاف مبكر لمحورية
الموقع للاحتجاج الجماهيري، تضامنا مع الانتفاضة الفلسطينية، غير أنه سحق في دقائق!
ومن الطرائف أنني
قد وصلني بعدها، تسجيل لعملية الدفع الرشيقة أمام مبنى الكلية، حيث وجدت أنني لم أتمكن
من إتمام جملة واحدة، حيث يبدو صوتي في التسجيل ينادي، بل يصيح: أيها الشباب.. أيها
الطلاب.. أيها الإخوة، وليس هناك شيء بعد ذلك!
وكانت هذه هي المرة
الأخيرة، التي يُسمح لي فيها بدخول جامعة القاهرة، ولمدة عشرين عاما، حيث لم أذهب بعدها
إلا في شباط/ فبراير ٢٠٠٦ لمناقشة رسالة الدكتوراة، وذلك بناء على حكم قضائي، ووقفة
شجاعة لأساتذة كليه الحقوق، وعلى رأسهم الدكتور عاطف البنا، والدكتور يحيى الجمل، والدكتور
محمد بدران، والدكتور أنور رسلان، والدكتورة سعاد الشرقاوي، إضافة للمستشار الجليل
طارق البشري والدكتور عبد العزير سمك اللذين كانا ضمن لجنة المناقشة، والذين رفضوا
جميعا أن تكون مقابلة الدكتوراة التمهيدية أو مناقشتها داخل السجون، وأجبروا وزير الداخلية
حبيب العادلي على القبول بذلك.. رحمهم الله تعالى جميعا، وعوضنا خيرا في جامعاتنا.