كشفت مجموعة من المقاطع المصورة المتداولة عبر مواقع التواصل الاجتماعي عن حالة غضب
مصرية كبيرة، وبينت وفق مراقبين، أن الشعب على شفا الانفجار، وأنه يتحدى البطش الأمني الذي يعيش فيه منذ 11 عاما منذ انقلاب عبدالفتاح
السيسي، على الرئيس الراحل محمد مرسي، في مثل هذا الشهر من عام 2013.
وأثار توقيع شركة (كيه.إس.إتش) الإماراتية للاستثمار، الثلاثاء، اتفاقا قيمته 24 مليار جنيه مصري (500 مليون دولار) لتنفيذ مشروع تطوير عقاري بجزيرة الوراق على نهر
النيل في
القاهرة، غضب أهالي الجزيرة الواقعة وسط نيل القاهرة.
بعض سكان وقاطني الجزيرة الغاضبين دخلوا في مشادات كلامية مع ضباط الشرطة المصرية الذين يقومون بدفع الأهالي لتوقيع استمارات وعقود بيع منازلهم وأراضيهم، ومغادرة الجزيرة لتنفيذ المشروع الإماراتي وغيره من المشروعات السكنية بالجزيرة.
لكنه، وبعيدا عن أزمة جزيرة الوراق مع الحكومة المصرية وتوجهها نحو طردهم منها منذ العام 2015، إلا أن الأزمة خلقت لدى بعض الأهالي قدرة على التحدي غير المسبوق لقوات الأمن منذ ثورة يناير 2011، وفق مراقبين.
"مكانكم ليس هنا"
وظهر مقطع فيديو لأحد أهالي جزيرة الوراق، وهو يقوم بطرد مجموعة من ضباط وأفراد الشرطة المصرية من أمام منزله حيث كانون يتمركزون، وذلك في تحد كبير وغير معهود، مطالبا إياهم بمغادرة الجزيرة، والقيام بأدوارهم في الحرب على الفساد، ومكافحة السرقة، ومنع تجارة المخدرات، وغيرها من الجرائم.
وظل لافتا حديث الرجل الموجه لمجموعة الضباط، وقوله: "مكانكم ليس هنا في الجزيرة، وأنا مواطن، وأحاسبك كضابط، لأنك تقبض راتبك مني"، فيما لم تفلح تهديدات الأمن للمواطن في وقف التصوير أو منعه من توجيه اللوم لهم، بل إنه دعا أهالي الجزيرة لمنع أي لجان شرطة من دخول الجزيرة، ومنع أي مشاريع تبنى على أراضيهم عنوة.
فورة الغضب التي صنعها المواطن المصري عبر عدة مقاطع، تبعها مقطع لمواطن مصري آخر من أهالي ذات الجزيرة، يتحدى قوات الأمن، وضباط الشرطة التي أوقفت (تروسيكل) خاصا به محملا ببعض قطع الأخشاب.
وتمنع السلطات عمليات البناء من قبل الأهالي في الجزيرة منذ سنوات، فيما ترفض إدخال مواد البناء كالأسمنت والحديد والطوب والرمل والزلط وغيرها.
لكن؛ تحدي الأهالي لضباط الأمن امتد من جزيرة الوراق الواقعة بالجيزة (غرب القاهرة)، إلى الإسكندرية (شمال غرب) البلاد، حيث تجمع الأهالي في شارع خالد بن الوليد في حي سيدي بشر، لمنع قوة شرطة تحاول إغلاق المحلات ومصادرة بضائعهم، وذلك تطبيقا لقرارات غلق المحلات ليلا توفيرا لاستهلاك الكهرباء.
تلك المقاطع، التي لاقت تفاعلا كبيرا، تأتي وسط حالة غضب شعبية تتسع يوميا من سياسات حكومة السيسي، كما أنها تستبق دعوات التظاهر التي انتشرت عبر مواقع التواصل الاجتماعي، تحت ما يسمى "ثورة الكرامة"، والتي تطالب المصريين بالخروج للتظاهر من مساجد مصر، الجمعة المقبلة 12 تموز/ يوليو الجاري.
وإلى جانب دعوة تظاهرات الجمعة، انتشر عبر مواقع التواصل الاجتماعي بيان يحمل مطالب تظاهرات "طوفان مصر" في 16 آب/ أغسطس المقبل، التي تضم وفق البيان ما دعاهم بالضباط الأحرار من داخل الجيش والداعمين للمظاهرات.
تلك المجموعة تطالب بتنحي السيسي، ورئيس وزرائه مصطفى مدبولي، وتدعو لحل مجلس النواب، والإفراج عن المعتقلين، وعمل فترة انتقالية يتولاها وزير الدفاع السابق محمد زكي، وتعيين حكومة تكنوقراط.
"وعي له أثره الخطير"
وفي قراءته لدلالات هذا التحدي غير المسبوق من مصريين لضباط الشرطة وقوات الأمن المصرية، منذ ثورة يناير 2011، أكد السياسي المصري والبرلماني السابق ممدوح إسماعيل، أن "هناك حالة غضب مكتوم متزايد لدى الشعب نتيجة ازدياد معدل الفقر بصورة لا مثيل لها مع غلاء رهيب يضغط على 90 بالمئة من المصريين".
وفي حديثه لـ"عربي21"، أضاف: "مع انتشار الفساد الطبقي وظهور طبقة مخملية مستفيدة من حكم العسكر لا تتعدى 1 بالمئة، تفتعل حالة استفزاز للغالبية من الشعب بثرائها وترفها".
وتابع: "يزيد في ذلك القبضة الأمنية الموجهة ضد غالب الشعب بمنع حقوقه وإلا الاعتقال"، مضيفا: "وجاءت أزمة قطع الكهرباء لتزيد من الضغط على المصريين خاصة في الصيف".
وأشار إلى أنه "على رأس ذلك يجلس متوجا الفشل الاقتصادي الذي لا يخفى مع الاستدانة لتغطيته مما ينذر بسقوط رهيب للدولة".
واستدرك بقوله: "لكن يبقى أن مواجهة الشعب للشرطة في الوراق، هي إعلان واضح من الشعب أنكم تسرقون وتنهبون حقوقنا ليس من أجل مصر، إنما من أجل الفاسدين والأثرياء".
وختم مؤكدا أنه "تفاعل ينم عن وعي، وسيكون له أثره الخطير، لأن قطاعا كبيرا من الشعب أدرك أن كل الضغوط عليه ليست من أجل بناء الدولة المصرية مطلقا، إنما من أجل نفر من الأثرياء الفاسدين في الحكم".
"على صفيح ساخن"
وقال السياسي والبرلماني المصري السابق الدكتور محمد عماد صابر، إنه "أمر طبيعي مع انهيار الأوضاع المعيشية، وارتفاع الأسعار، وانقطاع الكهرباء، وتصاعد الديون بشكل كارثي".
رئيس المنتدى المصري (برلمانيون لأجل الحرية)، وفي حديثه لـ"عربي21"، أضاف: "وطبيعي، مع سياسة الحكومة في بيع مصر بالقطعة، وغياب أي أفق لحل سياسي بسبب سياسات تكميم الأفواه والسجون التي تحتوي على أكثر من 100 ألف معتقل على رأسهم مائة نائب حقيقي تم الانقلاب عليهم، ولا تكف السجون يوميا عن استقبال المزيد والمزيد".
وتابع: "ومع فشل النظام الكامل في علاج ملفات المواطن الحياتية من صحة وتعليم وأسعار؛ صارت مصر كلها على سطح صفيح ساخن، ولا يصبح فيديو الوراق وتصاعد الاحتجاجات ضد التواجد الأمني والشرطي المبالغ فيه، غريبا".
وأكد أن "المصريين جميعا باتوا يشعرون أنهم في سجن كبير، يملك مفاتيحه مجموعة من الحمقى والمغفلين، ولذلك فإن الأمر يُنذر بكارثة كبيرة، إذا لم يتدارك العقلاء الأمر في هذا البلد المنكوب، فمصر المخروسة لن تصمت إلى الأبد".
ويعتقد صابر، أن "السبب يكمن في أن العلاقة لا زالت سيئة بين الشرطة والشعب المصري، حيث لا يوجد تغيير حصل في منظومة التعامل مع المواطن، على العكس ثمة حزمة قوانين جديدة تخدم ضباط الشرطة وتعطيهم صلاحية مطلقة بالتعامل مع المواطن بشكل غير آدمي، وفي الوقت نفسه تحمي رجال الشرطة من المساءلة والمحاسبة".
ويرى أن "ما يحدث الآن من بعض المواطنين المصريين في صورة تحد لبعض أفراد رجال الشرطة، هو في الحقيقة استمرار بدرجة ما لإرث من الكراهية"، مضيفا أن "نظام السيسي ما زال يستخدم وزارة الداخلية كحل وحيد في التعامل مع المشكلات الحياتية للمواطن، ويستخدمها كرأس حربة".
وقال السياسي المصري، "طبيعي جدا أن يدرك المواطن المصري أن انقلاب السيسي، على حكم الرئيس محمد مرسي، كان أكبر عملية نصب على الشعب المصري الذي خرج ضد حسني مبارك وأجهزته الأمنية والشرطية".
وأوضح أن "ذلك يأتي خاصة والوضع الأمني الآن صار أسوأ مما كان عليه أيام مبارك، فطبيعي أن يعبر المواطن عن غضبه في صورة تحد لرجال الشرطة، وإن كانت لا تزال محدودة، لكن أعتقد أن موجة الغضب قادمة وأول ضحاياها سيكون رجال الشرطة باعتبارهم خط الدفاع الأول عن نظام السيسي".
"تملص من فاتورة فشل الجيش"
وحول دلالات صمت ضباط الشرطة أمام تحدي الأهالي في جزيرة الوراق، والصمت على تصويرهم بوجوههم وحتى إهانتهم وطردهم، أشار السياسي المصري عمرو عبدالهادي، إلى أن ذلك يأتي لتحسين صورة الشرطة المصرية.
وقال في حديثه لـ"عربي21"، إنه "انتشرت عدة مقاطع بخلاف هذا الفيديو تحاول تحسين صورة الشرطة المصرية، أحدهم كان لضابط شرطة بزيه الرسمي يلعب مع الأطفال كرة قدم، والآخر لأمين شرطة يلعب كرة القدم مع أحدهم بزيه الرسمي".
وأكد أن "هذه المقاطع لا يمكن تفسيرها بحسن نية، في هذا التوقيت، حيث السخط الشعبي في ذروته، والدعوات تتوالى لإسقاط النظام، والنظام نفسه يظهر بمظهر الساقط الراحل المستسلم".
وتساءل: "وإذا كان الشعب المفعول به يرى النظام يسقط، فكيف لعصي النظام الغليظة المسماة بالشرطة لا ترى ذلك؟".
وفي نهاية حديثه أكد أن "تلك الفيديوهات محاولة لتحسين شكلهم، وأعتقد أنها إعلان مبكر أن الشرطة لن تتحمل فاتورة فشل الجيش في إدارة شؤون البلاد".
"مصري فصيح بالوراق"
وقال الكاتب الصحفي والمعارض المصري سيد صابر، "عندما شاهدت مقطع مواطن جزيرة الوراق يتحدث متحديا قوة شرطية و4 ضباط من وزارة الداخلية، تذكرت على الفور الفلاح المصري الفصيح وهو يدافع عن حقه، وهو ما صوره المخرج شادي عبدالسلام عام 1970 في الفيلم القصير (الفلاح الفصيح)".
وفي حديثه لـ"عربي21"، شبه صابر ، "مواجهة رجل جزيرة الوراق مع رجال الشرطة، بالفلاح الفصيح (خن أنوب) في القصة المصرية القديمة، والذي تعرض للظلم من أحد النبلاء في الأسرة التاسعة أو العاشرة بمنطقة إهناسيا، بصعيد مصر، وكيف كانت فصاحته سببا في استعادة حقه".
ويرى أن "ما ظهر في المقطع المصور شيء مدهش، ومؤشر على ما هو قادم"، لافتا إلى "حجم وتأثير وقوة ما قاله رجل الوراق، المدني البسيط الأعزل إلا من إيمانه بحقه في أرضه وبكل قوة وحسم للضباط: اطلعوا من أرضي وامشوا من أمام بيتي".
وأشار إلى أن "قوة حجة رجل الوراق، دفعت الضباط للدفاع عن أنفسهم بالقول: نحن نقوم بعملنا، ليأتيهم رد المصري الفصيح: شغلك ليس هنا لإجبار الناس على توقيع استمارات التنازل عن أرضهم، شغلك في الكمائن وعلى الكباري وفي الأقسام، وفي القبض على تجار المخدرات، وأنت تعمل عندي وتأخد راتبك من الضرائب التي أدفعها، وهذا بيتي ولا أريدك أن تقف أمامه".
ولفت إلى "تراجع الضباط أمام منطق الرجل الفصيح وانسحابهم في هدوء"، ما اعتبره الناشط المصري، "ملمحا خطيرا ومهما"، مؤكدا أن "ظهور الرجل ببساطته وقوة منطقه، تكشف أن هذا هو خطاب معظم أهالي الوراق المتفق على أنه (إلا الأرض)"، مبينا أن "أغبياء النظام لم يفهموا بعد ملامح الشخصية المصرية".
وعاد، صابر، من الحديث عن بطولة رجل الوراق، إلى الحديث عن جانب اعتبره هاما جدا ويخص الأمن القومي المصري، ملمحا إلى خطورة استمرار النظام في توريط الشرطة المصرية في أزماته مع المصريين.
وقال: "ارحموا الداخلية من تحمل تبعات وآثار قراراتكم"، مؤكدا أن "الداخلية هي من تتصدى للجماهير، وتتعامل مع المصريين وقت الأزمات، وتفقد الكثير من هدوئها واتزانها ونقاء ووطنية فكرة وجودها ومصداقيتها وسمعتها؛ بسبب جهات أخرى تتخذ القرارات وعلى الداخلية التنفيذ".
وختم مؤكدا أن "انسحاب الضباط أمام المواطن الأعزل إلا من لسانه وقلبه ووطنيته، بينما هم متحيرون بين الواجب الإنساني وإحساسهم تجاه المواطن، وبين التعليمات الصادرة لهم؛ مشهد يستوجب البحث على أعلى مستوى من مستويات الأمن القومي، يتجرد فيه المسؤول من أية انحيازات سلطوية، ويأخذ بيد المواطن البسيط والضابط الحائر".