اطلعت على مقالة الشاعر
الفلسطيني المتوكل طه الصادرة في موقع
وكالة وطن
للأنباء، وفيها يحاول ترميم حركة
فتح، عمود النضال الفلسطيني وعنوان
نضاله. وقد وجدت فيها من المشاعر الوطنية والغيرة على مكتسبات النضال المؤسساتي
الكثير، مما يصنف مقالته في الخطاب الوطني النضالي، ولكن المقالة أثارت عندي
مقارنات أوسع من ترميم فتح، ومن إعادة بناء منظمة التحرير المنهارة على نفسها؛ بحكم
انكسار عمود خيمتها السابق؛ حركة فتح.
الفكرة الأشمل التي أغفلها الشاعر وهو النبيه؛ هي أن المنظومات الحزبية
التي حكمت البلدان العربية بما فيها حركة فتح، قد انهارت بعد أكثر من خمسين سنة من
عمرها السياسي في الحكم، وأن المرحلة تقتضي تأسيسيا جديدا لا ترميم القديم. هذا
الانهيار بدأ منذ التسعينيات في الجزائر وفي العراق ثم استكمل بالربيع العربي،
وسنفصل دون معطيات رقمية لا يمكننا الوصول إليها بمفردنا.
أحزاب التحرير هشهشتها السلطة
يمكننا البدء في التأريخ لانهيار منظومات الأحزاب الحاكمة من جزائر
التسعينيات، التي كشفت أن حزب جبهة التحرير قد تحول من حزب قاد معركة تحرير وقاد
معركة بناء دولة، إلى حزب غنيمة استحوذت كوادره على المواقع والغنائم، فلما اضطرب
الوضع نتيجة عملية انتخابية انكشف أنه على الناس، ورغم الانقلاب على نتائج الصندوق
حينها، إلا أن الحزب لم يفلح في ترميم بنيانه، وانتقلت مغانمه إلى قوى اجتماعية أخرى،
وبعد عشرين سنة صار الحزب ذكرى يمقتها الشعب الجزائري، رغم أنه باق بقوة التحالف
الأخير مع العسكر لا بقوة الشارع.
هذه الأحزاب تحولت بحكم موقعها في السلطة إلى أحزاب للحاكم الفرد لا أحزابا للحكم، والحاكم الفرد حوّلها إلى وسيلة ارتزاق فأخضعها باصطناع أو استزلام قادتها وإغراقهم في المكاسب الفردية؛ فتحولت بهم الأحزاب إلى وسائل استثراء على حساب إدارة بلدانهم بحوكمة رشيدة، فلما سقط الفرد (صدام/ بن علي/ مبارك/ القذافي/ على صالح.. إلخ)، سقطت من ورائه منظومات الحزب.
جرى الأمر نفسه على حزب البعث العراقي بعد غزو العراق، فقد اختفى الشخص
القائد وبدأ تلاشي الحزب حتى لم يعد يذكره أهل العراق، ورغم أن انهياره كان بقوة
خارجية أكثر من تأثير قوى الداخل (مما يؤهله رمزيا لموقع الحزب الشهيد)، إلا أن هذه
الرمزية لم تسعفه بالعودة، ولو بحدود دنيا من الوجود. وما جرى على حزب البعث جرى
على اللجان الشعبية للقذافي، وإن لم تتخذ شكل حزب كلاسيكي، فكانت مطابقة لهلوسات
المؤسس.
بعد الربيع العربي، يمكننا أن نقدم مثالين ساطعين لانهيار المنظومات الحزبية
الحاكمة: انهيار حزب التجمع التونسي (وريث حزب الدستور)، وانهيار الحزب الوطني في
مصر (وريث الاتحاد الاشتراكي). فبمجرد أن شعر الناس بارتخاء قبضة السلطة، كان
الحزبان هدفا للحرق ومن ثم للتفكيك، فلم يفلحا رغم الانقلاب على التجربة
الديمقراطية، ورغم قمع الحريات في العودة والفوز ببعض السلطة.
نوشك هنا أن نصوغ قانونا تاريخيا، وهو أن هذه الأحزاب تحولت بحكم موقعها في
السلطة إلى أحزاب للحاكم الفرد لا أحزابا للحكم، والحاكم الفرد حوّلها إلى وسيلة
ارتزاق، فأخضعها باصطناع أو استزلام قادتها، وإغراقهم في المكاسب الفردية؛ فتحولت
بهم الأحزاب إلى وسائل استثراء على حساب إدارة بلدانهم بحوكمة رشيدة، فلما سقط
الفرد (صدام/ بن علي/ مبارك/ القذافي/ على صالح.. إلخ)، سقطت من ورائه منظومات
الحزب، وتاه الأنصار بين حزيبات تحاول إرثه، وبين تمردات صغيرة تتظاهر بالديمقراطية لتصنع
لها مجدا جديدا. لكن تجاربها السابقة في الحكم ظلت تطاردها، فلا يرحب بها الناس، بل
يرجمونها بكل تاريخ الظلم والقهر والفشل.
ارتكبت حركة فتح تحت مظلمة منظمة التحرير (وبذريعة المشروع الوطني) نفس حماقات الأحزاب العربية الحاكمة، لقد اعتدت على الديمقراطية لما أسقطتها انتخابات شرعية أمام حركة حماس. وكانت تلك خطوة مدمرة لماضيها النضالي ولمستقبلها السياسي، كانت الخطوة الخطأ في الزمن الخطأ؛ لأن بعض نتائجها تحويل فتح إلى مجموعة متنفذين يغنمون من وجودهم في فتح وفي المنظمة، تماما مثل أحزاب الحكم العربية، حتى صارت خدمة السلام مع العدو سببا للبقاء السياسي.
يمكن توسيع النظرة إلى طبيعة الأحزاب العربية عامة والأحزاب خاصة، فهي أحزاب
الشخص الواحد (الذي يحول الحزب إلى مزرعة شخصية)، وقد كان أمام هذه الأحزاب أن
تتعلم من تجارب أحزاب أوروبا الغربية (بريطانيا بالخصوص)، فتبني الديمقراطية بالتنافس
والتبادل، فقلّدت فقط نماذج أحزاب المعسكر الشرقي، فكانت عصابات لصوص تشتغل كأدوات
قمع حتى لكوادرها ولمنخرطيها فتحولهم إلى مرتزقة.
حركة فتح حزب حكم انهار
لم تحظ حركة فتح بنفس السلطة على شعب مستقل (نظريا)، لكن مسارها كان مطابقا
لمسارات أحزاب الحكم العربية. والقانون التاريخي المذكور يسري عليها الآن،
ومحاولات ترميمها تلقى مصير ترميم حزب التجمع في تونس والحزب الوطني في تونس.
نقلت اتفاقية أوسلو فتح من حزب (منظمة تخجل من اسم الحزب) يقود معركة تحرر
وطني، إلى حزب حاكم (في أرض تحت الاحتلال) يحتفظ نظريا بمهمة قيادة معركة التحرير،
لكنه يمارس عمليا إلحاق شعبه بوضع مستقر تحت الاحتلال (وهذا تنبه له المتوكل طه في
مقالته التي حفزتنا على الكتابة).
ارتكبت حركة فتح تحت مظلمة منظمة التحرير (وبذريعة المشروع الوطني) نفس
حماقات الأحزاب العربية الحاكمة، لقد اعتدت على الديمقراطية لما أسقطتها انتخابات شرعية
أمام حركة
حماس. وكانت تلك خطوة مدمرة لماضيها النضالي ولمستقبلها السياسي، كانت
الخطوة الخطأ في الزمن الخطأ؛ لأن بعض نتائجها تحويل فتح إلى مجموعة متنفذين يغنمون
من وجودهم في فتح وفي المنظمة، تماما مثل أحزاب الحكم العربية حتى صارت خدمة
السلام مع العدو سببا للبقاء السياسي، وهو ما جرى على أحزاب الحكم العربية، وهو ما
يجري الآن ويخرب محاولات الإصلاح من الداخل، كما يسعى فيها أمثال المتوكل طه.
الأحزاب العربية التي قادت معركة التحرر الوطني (أو من ورثها من صلبها)
استنفدت أغراضها وانحرفت عن المهمة الأولى، ولم ترتق إلى بناء الديمقراطية التي
تجعلها شريكا لآخرين من الوطن. وأمراض هذه الأحزاب انتقلت بالمماراة إلى حركة فتح،
فظهرت فيها كل الأعراض المرضية لأحزاب الحكم، بما في ذلك استسهال الخيانة الوطنية.
وكما ماتت الأحزاب تموت الآن حركة فتح، والمعتاشون منها الآن يأكلون من جثة تتحلل، ووهم الإصلاح بالترميم يبدو مستحيلا.
الانطلاق من صفر جديد
كان سعي حماس إلى دخول منظمة التحرير بشروط فتح المهيمنة جهدا عبثيا، ونرى حماس قد انتهت إلى هذه الحقيقة بعد إسقاط حكوماتها المنتخبة شعبيا، وعوّلت على انطلاقة جديدة لا تعول على منظمة التحرير.
كان سعي حماس إلى دخول منظمة التحرير بشروط فتح المهيمنة جهدا عبثيا، ونرى
حماس قد انتهت إلى هذه الحقيقة بعد إسقاط حكوماتها المنتخبة شعبيا، وعوّلت على
انطلاقة جديدة لا تعول على منظمة التحرير، وهي تحقق نتائج عظيمة في مشروع
الاستقلال الوطني الفلسطيني، خاصة بمعركة الطوفان التي أربكت من تبقي من قيادة فتح، بل وصل الأمر بمحمود عباس إلى إدانتها ومحاربتها.
الانطلاقة من نقطة جديدة بوسائل جديدة في الحالة الفلسطينية، هو خيار
المقاومة المسلحة وليس خيار فتح السلمي ما بعد أوسلو، لذلك نرى محاولات الترميم
جهدا تائها ومخسورا مسبقا بقطع النظر عن نوايا أصحابه، فلسنا في موضع التشكيك.
خيار الانطلاق من منطقة جديدة كان مطروحا على أحزاب الحكم العربية المنهارة
بقبول قواعد الديمقراطية، والعمل المشترك مع قوى شعبية ظهرت في دولة الاستقلال،
وطمحت إلى المشاركة فقمعت فانهار الحزب الحاكم/ القامع المستقوي بالأجهزة الصلبة،
فانهارت الدول والأنظمة، وعادت إلى حضيض الفقر والجوع (تونس ومصر).
وفي لحظة حرب الطوفان، إذا لم ينتبه المناضل الفتحاوي الصادق المتمسك حتى
اللحظة بحركة فتح إلى هذا القانون التاريخي، فلن يتقدم بنفسه ولا بحركة فتح ولا
بمنظمة التحرير.
ونختم بتنبيه ضروري، مواصلة التفضل بالعطف على حركة حماس، والنظر إليها كأخ
صغير وغشيم يجب تربيته حتى يكبر نضاليا ويرشد؛ نصنفه عملا إجراميا وخيانة وطنية. هذه
خطيئة مارستها الأحزاب العربية بعقل استئصالي على كل الأحزاب الإسلامية في أقطارها،
فانتهت الأحزاب الحاكمة وبقيت الحركات الإسلامية ونراها تكبر رغم المحن، كما كبرت
حماس وقادت في المجال المتاح وأثخنت في العدو.