نشرت مجلة "فورين
بوليسي" مقالا للباحث في مركز الدراسات الإسلامية وغرب آسيا في رويال هولواي،
جامعة لندن، علي هاشم قال فيه إنه لم يبق سوى عدد قليل من القرى سليمة على الجانب
اللبناني
من الحدود مع "إسرائيل"، كما دمرت بالكامل أحياء واسعة في البلدات التي لا
تزال قائمة، مثل مروحين. عندما يحل الليل ويخيم الظلام على المنطقة، يكون الضوء البعيد
الوحيد المرئي من مسافة 30 كيلومترا تقريبا - حدائق البهائيين المتوهجة في حيفا، أكبر
مدينة شمال إسرائيل، والتي يسكنها حوالي 280 ألف شخص.
وما بين مروحين
وحيفا تجمعات ومواقع عسكرية إسرائيلية تتعرض يوميا لنيران
حزب الله. وعلى مدى الأشهر
الثمانية الماضية، فر أكثر من 150 ألف شخص على جانبي الحدود من بلداتهم وقراهم بسبب
حرب الاستنزاف المستمرة التي خلفت حوالي 400 قتيل على الجانب اللبناني ونحو 30 قتيلا
على الجانب الإسرائيلي.
على مدى ثمانية
أشهر، كانت المنطقة الحدودية نقطة ساخنة للعنف الاستنزافي المتبادل بين حزب الله و"إسرائيل"،
وهو العنف الذي تصاعد مؤخرا وأثار دعوات في "إسرائيل" لحرب موسعة. ولكن،
خلافا للمظاهر، لا يوجد سبب وجيه للاعتقاد بأن المواجهة بين "إسرائيل" ولبنان
سوف تتصاعد إلى حرب شاملة.
دخل حزب الله الصراع
مع إسرائيل بعد هجمات السابع من تشرين الأول/ أكتوبر. ورغم أن قادة حزب الله صرحوا
بأنهم لم يكونوا على علم بالهجمات مقدما، فإن هذا لا يعني عدم الموافقة. وقد أعرب زعيم
حزب الله حسن نصر الله باستمرار عن دعمه القوي لتصرفات كتائب عز الدين القسام وزعيم
حماس في غزة، يحيى السنوار، الذي وصفه بأنه "قائد عظيم وشجاع".
لكن الصراع الأوسع
بين حزب الله و"إسرائيل" لم يبدأ بعد السابع من تشرين الأول/ أكتوبر. فقد
اتخذ أشكالا مختلفة منذ أن شكلت مجموعات من المقاتلين الشيعة في جنوب لبنان المقاومة
الإسلامية في لبنان عام 1982، في أعقاب الغزو الإسرائيلي في ذلك الصيف. ووقعت المواجهة
الأكثر أهمية في عام 2006، عندما اختطف حزب الله جنديين إسرائيليين من المنطقة الحدودية،
بهدف مبادلتهما بأسرى في السجون الإسرائيلية. وردت "إسرائيل" بشن حرب مدمرة
في تموز/ يوليو وآب/ أغسطس من ذلك العام، بهدف القضاء على حزب الله، وهو هدف مماثل
لأهداف "إسرائيل" في حربها الحالية ضد حماس.
إحدى الطرق التي
تختلف بها المواجهة اليوم عن المواجهات السابقة هي أنها تشير إلى أن حزب الله قد راكم
ما يكفي من القدرات على مدى العقد الماضي ليشكل الآن تهديدا استراتيجيا لـ"إسرائيل".
قال مسؤول في فيلق
القدس الإيراني الذي يشرف على حزب الله وغيره من الفصائل المرتبطة بإيران في الشرق
الأوسط، لمجلة "فورين بوليسي" إن حزب الله يمتلك الآن أكثر من مليون صاروخ
من أنواع مختلفة، بما في ذلك صواريخ موجهة بدقة وصواريخ كاتيوشا معدلة لزيادة الدقة،
بالإضافة إلى صواريخ مضادة للدبابات.
تشمل ترسانة حزب
الله، كما تم الكشف عنها خلال حرب الاستنزاف الطويلة، مسيّرات انتحارية، ومسيّرات أخرى
مزودة بصواريخ روسية، إلى جانب نوع من الصواريخ الإيرانية يسمى "ألماس" مزود
بكاميرا. مستوحى من صاروخ "سبايك" الإسرائيلي، وهو من نوع "أطلق وانسى".
يغير هذا العتاد قواعد اللعبة لأنه يجعل المقاتلين أقل عرضة للهجمات الإسرائيلية على
مواقع الإطلاق.
تمتلك "إسرائيل"
ترسانة أكبر بكثير من صواريخ جو-أرض تُطلق من طائرات حربية مختلفة ومسيّرات مسلحة.
وأدى تبادل إطلاق النار إلى نزوح أكثر من 150 ألف شخص على جانبي الحدود، مما حول البلدات
الحدودية اللبنانية إلى مناطق تشبه غزة المصغرة. ويمتد الدمار تدريجيا إلى بلدات شمال
"إسرائيل"، التي يطالب سكانها بشكل متزايد الدولة باتخاذ خطوات عملية لإعادتهم
إلى منازلهم.
في الشهر الماضي،
قمت بجولة في القرى والبلدات المدمرة في جنوب لبنان، بما في ذلك الناقورة، حيث يقع
المقر المحلي لقوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة، والتي دمرت الغارات الجوية الإسرائيلية
مركزها، ومروحين، التي دمرت بالكامل تقريبا، وعيتا الشعب، التي يمكن وصفها بأنها مسوّاة
بالأرض في جنوب لبنان. ولا تستضيف هذه القرى والبلدات وغيرها سوى عدد قليل من السكان
الذين يفضلون الموت في منازلهم بدلا من الفرار إلى المدارس والملاجئ الأخرى في مدن
أكثر أمانا.
ومن الجدير بالذكر
أن كلا الجانبين يحصران حربهما إلى حد كبير على الأهداف العسكرية، كما يتضح من الإعلانات
اليومية الدقيقة عن الأنشطة العسكرية. وتركزت الهجمات الإسرائيلية بشكل رئيسي في المناطق
الحدودية وعلى عمق 15 كيلومترا. ومع ذلك، هناك استثناءات، كما هو الحال عندما استهدفت
القوات الجوية الإسرائيلية مناطق أعمق في البقاع اللبناني، وفي إحدى المرات، في الضاحية
الجنوبية لبيروت. وفي المقابل، قام حزب الله بتوسيع ضرباته أفقيا، وليس عموديا، لتشمل
مرتفعات الجولان، وهي الأراضي السورية التي احتلتها "إسرائيل" وضمتها فعليا
في وقت لاحق. وتم تسجيل هجمات قليلة في الأشهر الأخيرة استهدفت قواعد عسكرية في صفد،
بالقرب من نهاريا، وحيفا، ونفذت معظمها بمسيّرات انتحارية. وبعد اغتيال نائب رئيس المكتب
السياسي لحماس صالح العاروري والقيادي البارز في حزب الله وسام الطويل، استهدف حزب
الله قاعدة ميرون الاستراتيجية التي توصف بأنها قاعدة مراقبة جوية.
وحتى الآن، يحاول
الطرفان تجنب سقوط ضحايا من المدنيين قدر الإمكان، ويتبادلان الرسائل من خلال قوة الأمم
المتحدة المؤقتة في لبنان كلما تأثر المدنيون ويشرحون الأسباب. إنهم منخرطون في نوع
مختلف من الحرب، حيث يركزون أكثر على الأهداف الإستراتيجية بدلا من السيطرة على الأراضي.
بالنسبة لـ"إسرائيل"، الهدف هو الضغط على حزب الله للكشف عن منشآته الإستراتيجية
أو التراجع إلى مواقع أقل تحصينا. وكانت لحرب عام 2006 نتائج عكسية بالنسبة لـ"إسرائيل"،
لأنها سمحت لحزب الله ليس فقط بزيادة ترسانته في أعقابها، بل وأيضا باستخلاص الدروس
من القتال لتحديث تكتيكاته لتتناسب مع قدرات الجيش الإسرائيلي.
وبعد ما يقرب من
ثمانية أشهر من المعارك المنتظمة، أصبح من الواضح الآن أن كلا من حزب الله و"إسرائيل"
يدركان أن أي حرب واسعة النطاق بينهما ستكون مدمرة. ويدرك حزب الله أن لبنان سوف يدمر،
مع سقوط آلاف الضحايا. لكن "إسرائيل" تدرك أيضا أن ما واجهته في غزة خلال
الأشهر الماضية، دون تحقيق أهدافها الكاملة، لا يقارن بالحرب مع حزب الله.
ولدى "إسرائيل"
قائمة كبيرة من الأهداف في لبنان، وقد استهدفت العديد من نقاط الإطلاق والتخزين التابعة
لحزب الله في الأشهر الأخيرة. وفي الوقت نفسه، استهدف حزب الله معدات الاستطلاع والمراقبة
والاتصالات الإسرائيلية في المواقع الحدودية، كما ضرب منشآت عسكرية لدفع الجنود الإسرائيليين
إلى مواقع جديدة أقل تحصينا في المناطق المفتوحة أو البلدات الحدودية. وبدا أن المنظمة
أكثر تركيزا على دراسة الدفاعات الجوية الإسرائيلية، بما في ذلك نظام القبة الحديدية،
حيث نشر حزب الله لقطات يزعم أنها تظهر استهدافا مباشرا للنظام. وربما يكون حزب الله
قد تعلم أيضا من الهجوم الإيراني على "إسرائيل" في نيسان/ أبريل الماضي كيفية
تكثيف عمليات إطلاق الصواريخ. ونظرا للقرب بين "إسرائيل" ولبنان مقارنة بإيران
و"إسرائيل"، فإن هناك فرصة أكبر أن يتسبب حزب الله بدمار أكبر للمدن الإسرائيلية.
وحتى الآن، يفضل
الجانبان، وخاصة في ظل الحرب في غزة، إبقاء الصراع ضمن الإطار الحالي. فحزب الله، على
الرغم من كونه منظمة إسلامية تحشد مقاتليها من خلال خطاب الاستشهاد، لم يظهر قط أي
ميول انتحارية. ومن المرجح أن تتخذ نهج التصعيد العقلاني الذي تبنته إيران بعد اغتيال
قائد فيلق القدس قاسم سليماني، مع إبقاء الإجراءات دون مستوى الحرب الشاملة.
وقد يتزايد التصعيد
أو ينقص، بنطاق عملياتي واستهدافي أوسع، لكن دون تجاوز العتبة التي توسع القتال إلى
ما هو أبعد من الأهداف العسكرية. وأي شيء يتجاوز هذا يمكن أن يشعل حربا ذات عواقب واسعة
النطاق تتجاوز لبنان و"إسرائيل"، مما قد يؤدي إلى مزيد من التدخلات من قبل
القوات المقاتلة مثل الحوثيين في اليمن والميليشيات العراقية ودور أكبر للقوات المرتبطة
بالمحور الذي تقوده إيران في سوريا، مثل لواء الإمام الحسين، الذي يضم إيرانيين وعراقيين
وباكستانيين وأفغانا ولبنانيين وسوريين وفلسطينيين. ومن غير المرجح أن ترغب "إسرائيل"
أو لبنان (ولا الجهات الراعية لهما، الولايات المتحدة وإيران) في خروج الوضع عن نطاق
السيطرة بهذه الطريقة في مختلف أنحاء المنطقة.
في ظل الظروف الحالية،
رغم أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو قد يرغب في إطالة أمد الصراع في غزة،
على الأقل حتى تنتهي الانتخابات الأمريكية، إلا أن ذلك لا يشير بالضرورة إلى نية لبدء
حرب شاملة في لبنان. وقد يدفع نتنياهو الوضع إلى حافة الهاوية لزيادة الضغط على حزب
الله محليا ودوليا. لكن حزب الله يواجه التصعيد الإسرائيلي بإجراءات متبادلة بهدف ترسيخ
قوة الردع لديه. ومن الواضح أن التهديد بالحرب في الوقت الراهن يظل مجرد مناورة استراتيجية
وليس حقيقة وشيكة.