المعلوم أن هذا الوصف فيه مقارنة بين مكرين: مكر الإنسان ومكر
الله.
والمعلوم كذلك أن الله يقول في
قرآنه الكريم إن الإنسان خصيم لربه مبين. ولا يمكن
فهم هذه المقارنة إذا بقينا نعتقد أن ما يسمى بالذكاء الصناعي أمر جديد لأنه يبدو
من مكر الإنسان الذي يجعل الآلة الذكية من
أدواته التي وصلت إلى درجة منافسته في المبادرة الفعلية التي تبدو مستقلة عنه أي
إن كونها صناعية وغير عضوية هو المحير في الأمر.
لذلك بدأت ببيان أن الحضارة تنتج عن قدرة الإنسان على الخلق والأمر
أولا وعلى أبقى مصنوعاته عليه بحيث يصبح الصانع خاضعا لمصنوعه. وذلك هو معنى
الذكاء الصناعي المخيف.
لكن هبنا افترضنا النسبة بين الذكاء العضوي عند الإنسان والذكاء
الصناعي الذي صنعه الإنسان قابلة لتعريفهما بكونهما "المكر الإنساني" في
التعامل مع الأشياء طبيعية كانت أو إنسانية فإن الذكاء العضوي في الإنسان من حيث
هو كائن حي يمكن اعتباره ناتجا عن ذكاء صناعي هو "المكر الإلهي".
بحيث إن الذكاء العضوي الإنساني يعد هو بدوره "ذكاء
صناعيا" لصانع مكره أقوى من مكر الإنسان أي إنه المكر الإلهي: فالمكر
الإنساني صنيعة المكر الإلهي وقد يأبق على صاحبه ولكن ليس على خالقه.
فماذا يمكن أن يكون هذا الذكاء الصناعي في العضوي الإنساني إذا
اعتبرنا علاقته بمكر الله الخالق للإنسان بحيث إن الذكاء العضوي الإنساني نسبي
ومتناه بالقياس إلى ذكاء صناعي إلهي من طبيعة مجهولة لأنه من الغيب الذي يحيط
بأفعال الله. وما يغفل عنه الكثير من المتطلعين ومكثري الحديث عن العقل والعقلانية
هو أنه من الذكاء العضوي وهو ما نعلم منه إلا القليل.
إن الذكاء العضوي الإنساني يعد هو بدوره "ذكاء صناعيا" لصانع مكره أقوى من مكر الإنسان أي إنه المكر الإلهي: فالمكر الإنساني صنيعة المكر الإلهي وقد يأبق على صاحبه ولكن ليس على خالقه.
والغالب على علمنا بأفعاله مجهول المجهول منها لا يتناهى بالقياس إلى
المعلوم وهو لأننا لا نعلم بعد كيف يعمل الفكر عامة والدماغ خاصة ليكون قادرا على
مكر "الحيل" الرياضية المحررة من الضرورة الطبيعية في النظر ومكر "الحيل"
الخلقية المحررة من الضرورة الطبيعية في العمل.
1 ـ فـ"الحيل" الرياضية ثمرة مكر
يحرر النظر من التحدد المضموني الطبيعي المادي ويكتفي برموز قابلة لتأويل شبه لا
متناه به تصاغ الظاهرات الطبيعية إذا كانت بنيتها قابلة للقول به لسانا يعبر عنها.
2 ـ و"الحيل" الخلقية ثمرة مكر
يحرر العمل من التحدد المضموني الخلقي الروحي ويكتفي برموز قابلة لتأويل لا متناه
به تصاغ الظاهرات الحضارية إذا كانت بنيتها قابلة للقول به لسانا يعبر عنها.
فتكون الإشكالية في محاولة فهم تاريخ الفكر الإنساني الذي هو
"حيل أو مكر" إنساني استراتيجية في علاقته بالعالم الطبيعي والتاريخي
وفي علاقته بذاته بدنيا وروحيا يحاول بها فهم المكر الإلهي في نظام الخلق والأمر
المتعالي على مكره والذي يسعى لرده إلى مكره.
وإذا فنحن أمام سؤالين يشترك فيهما الفلسفي والديني وهما:
1 ـ لماذا يوجد شيء بدل لا شيء وكلاهما
ممكن وليس ضروريا وهذا هو التوجيه العقلي الذي هو ذكاء صناعي عضوي؟
2 ـ ولماذا ما يوجد يكون بالكيف الذي
يبدو عليه في حين أن الكيوف الممكنة لا متناهية؟
فما سر إبداع الخطط الاستراتيجية في الإنجاز الفعلي المعبر عن
الإرادة الحرة عند الإنسان عندما يتوهم أن ذلك ممكن من دون البرمجة التي نفترضها
قد "صنعت" المكر الإنساني أي الفكر الحر والنابع من الكيان العضوي ورمزه
هذه القدرة التوجيهية التي تميز بين الممكن والواجب والممتنع.
فالفكر الإنساني ليس من جنس المرآة التي نرى على سطحها انعكاس ما
يرتسم على سطحها ويمكن أن نسمي الفرق بأنه شرط ما يسميه ابن تيمية "التقدير
الذهني" الذي لا يرد إليه ما عليه الشيء بل ما يتوقعه الفكر الإنساني ويعدله
حتى يصل إلى ما يعتبر كافيا للدلالة عليه ما يعني أنه من جنس أي صناعة لجهاز فاعل
في شيء ما متعين طبيعيا هو من "صناعة" المكر الإلهي في الشيء من حيث هو
مخلوق صنع إلهي لا يرد إلى ما ندركه منه.
جواب القرآن هو ما رد به الرب على الملائكة لما أعلمها بأنه جاعل في
الأرض خليفة واختار الإنسان للاستخلاف. فلما عبرت عن استغرابها لعلمها بأن الإنسان
يفسد في الأرض ويسفك الدماء رد الرب بأنه يعلم ما لا يعلمون وعلم آدم الأسماء
كلها. فيكون ذلك هو سر ما يمكن ان يحرر الإنسان مما ظنته حتميا في سلوكه أي الفساد
في الأرض وسفك الدماء: حرية الإرادة ورجاحة الحكمة المضمرين في تعلم الأسماء.
تعليمه الأسماء هو "البرمجة الطبيعية" التي تمكنه من
القدرة على تسمية الأشياء كلها وهي قدرة
نسبتها إلى الحيوانية هي ما يجعله قادرا على الخير والشر. فيمكنه إذن أن يصلح أو
أن يفسد ويسفك الدماء بالطبع. وتلك هي نسبة الذكاء الصناعي إلى الذكاء العضوي.
وهو ما يعني أن ذلك من
جنس الذكاء الصناعي القادر على الأبق
فيتحرر من الاستجابة لصانعه وهو ما لم يحصل بالنسبة إليه الآن ونتخوفه من حصوله في
المستقبل لكنه حاصل للذكاء العضوي عند الإنسان لكونه ذكاء حر يحتوي على القدرتين
الخيرة والشريرة وهو ما حكمت الملائكة بمقتضاه لجهلها بما علمه الله من قدرة على
التسمية التي تجعله يفعل ذلك على علم. فالقدرة على تعويض التعامل مع الأشياء
بالتعامل مع أسمائها التي ترمز إليها وكأنها مطابقة
للمسميات هو مدى ما له من قدرة على الخير والشر في آن. فيكون فعل نظام الرموز
وكأنه نظام فعل المرموزات وهو سر كل الشر القصدي في الخداع التواصلي والتبادلي
وغير القصدي عند من لا يميز بين الرمز والرموز .
وعندنا مثالان يحكمان كل حياة البشر أي أداة التواصل (الكلمة) وأداة
التبادل (العملة). فكلتاهما تمكن الإنسان
من أن يستعملهما للضدين بحيث إنهما فاعليتان حرتان لهما قدرة مضاعفة لفعل الضدين. وبذلك يكون الإنسان بالقدرة على استعمال الاسم
بديلا من المسمى قد برمج بصورة تجعل
التواصل والتبادل فعلين حرين: ويترتب على ذلك أن التواصل صادقا أو كاذبا والتبادل
عادلا أو ظالما.
1 ـ فيكون التواصل للخداع في مستوى المعاني
(الكذب أو المعنى المزيف مثل الكلمة المزيفة)
2 ـ ويكون
التبادل للخداع في مستوى القيم (الغش أو القيمة المزيفة مثل العملة المزيفة).
واستعمال الكلمة والعملة بالطريقتين الموجبة والسالبة هو حرية
الإرادة العضوية التي تجعل المكر الإنساني مستقلا عن المكر الإلهي رغم أنه مبرمج
خلال صناعته على هذه القدرة التي هي حريته أو خروجه عما يريده الله منه من خير
لكنه لا يخرج حقا لأن ما يريده من شر هو أيضا ثمرة برمجته الإلهية ومن ثم فما
يشبهها هو أيضا من برمجة المكر العضوي للمكر الصناعي، فكلنا يعلم ما يلي من خلال
تحليل امثولة العجل الذي صار بديلا من الرب في غياب موسى: فالعجل إله بمعدنه
(العملة) وبخواره (الكلمة):
1 ـ فالعملة (رمزها الذهب الذي هو معدن
العجل) هي السر في جعل التبادل يصبح قابلا لأن يكون تطفيفا وسلطانا على المتبادلين
وليس مجرد أداة لتبادل للقيم.
الغالب على علمنا بأفعاله مجهول المجهول منها لا يتناهى بالقياس إلى المعلوم وهو لأننا لا نعلم بعد كيف يعمل الفكر عامة والدماغ خاصة ليكون قادرا على مكر "الحيل" الرياضية المحررة من الضرورة الطبيعية في النظر ومكر "الحيل" الخلقية المحررة من الضرورة الطبيعية في العمل.
2 ـ والكلمة (رمزها الخوار الذي هو كلام
العجل) وهي السر في جعل التواصل يصبح قابلا لأن يكون تضليلا وسلطانا على
المتواصلين وليس مجرد أداة تواصل.
وإليك كيف يكون ذلك ذكاء صناعيا متحررا من الذكاء الطبيعي أو قابلا
لأن يحصل في الضدين دليلا على قابلة الأبق أي الخروج عن الإرادة والحكمة
الإنسانيتين اللتين له من حيث كيانه
الروحي الذي يميز بين الخير والشر:
1 ـ فالكلمة والعملة كلتاهما يمكن أن تكونا
معبرتين عن المعاني في التواصل الصادق
2 ـ وعن القيم في التبادل العادل.
3 ـ والكلمة والعملة كلتاهما يمكن أن
تكونا معبرتين عن المعاني في التواصل الكاذب وعن القيم في التبادل الظالم.
4 ـ لكن الكلمة يمكن أن تعمل عمل العملة: فتصبح تبادلا عادلا أو
ظالما. إذ كل تبادل يسبق كلام حول طبيعته وشروطه وسعره بضاعة كان أو خدمة.
5 ـ العملة يمكن أن تعمل عمل الكلمة: فتصبح تواصلا صادقا أو كاذبا.
إذ كل كلمة تتعلق ببضاعة أو بخدمة في المعاملات.
ولهذه العلة فإن القرآن حرم ربا الأموال الذي هو تحول العملة إلى
سلطان على المتبادلين وهي حينها تصبح جوهر التطفيف الذي يمس الميزان في التبادل
الرامز للعدل وهو في الكيل والاكتيال وهو التطفيف والغش.
ولهذه العلة حرم القرآن ربا الأقوال الذي هو تحول الكلمة إلى سلطان
على المتواصلين وهي حينها تصبح جوهر الكذب الذي يمس الميزان في التواصل الرامز
للصدق وهو أن يقول الإنسان ما لا يفعل ويفعل ما لا يقول وهو النفاق والخداع.
مثلما أن العملة المزيفة هي الحد الأقصى في ربا الأموال وكل المعاملات التبادلية ومنها التضخم فكذلك الكلمة المزيفة هي الحد الأقصى في ربا الأقوال أي في الشعر والعلم وأدب وكل المعاملات التواصلية.
والقرآن يعلمنا بأن الله أعلن الحرب على ربا الأموال وسلط أشد مقته
على من يقول ما لا يفعل. ولم يطبق ذلك على الشعراء مثالا يبين فيه أن الشعر يغلب
عليه ذلك لكن فضله يكون في نسبة التجارة للربا هي حلال وهو حرام فيكون المحرم في
الشعر هو في نسبة الربا للتجارة.
الشعر حلال مثل التجارة إذا كان قولا مطابقا للفعل فلا يكذب ولا
ينافق. وهذه المقابلة تصح أيضا على المعرفة والعلم وكل المعاملات التواصلية صحة
المقابلة بين التجارة والربا. ومثلما أن العملة المزيفة هي الحد الأقصى في ربا
الأموال وكل المعاملات التبادلية ومنها التضخم فكذلك الكلمة المزيفة هي الحد
الأقصى في ربا الأقوال أي في الشعر والعلم وأدب وكل المعاملات التواصلية.
وختاما فإن جل المعاملات التبادلية والتواصلية المزيفة هي السر في
التخلف المادي والانحطاط الخلقي. وهما إذا المقياس الذي استعمله للكلام على
التعامل التبادلي والتعامل التواصلي في البلاد المتخلفة خاصة لكنهما لا يخلو منهما
مجتمع.
وما يعنيني من المسألة هو سيطرتهما في بلادنا لأنهما سر التخلف
والانحطاط وخاصة في المعاملات التواصلية في كل ما يسمى فكرا وأدبا وإبداعا. فيمكن
القول إن أكثر من 99 في المائة منها خداع في خداع، أي تواصل مزيف وتبادل مغشوش.
ولما كنت لست معنيا بربا الأموال في هذه المحاولة فإني سأركز على التواصل العلمي
والعملي أي المشترك بين الفلسفي والديني في النظر والعقد وفي العمل والشرع.