ما الذي يدفع طلبة ليسوا من أصول عربية ولا إسلامية في أغلبهم، ولا
يربطهم تاريخ وثقافة مشتركة مع أهالي
غزة، أن يواصلوا منذ منتصف الشهر الماضي
مظاهراتهم المناهضة للجريمة التي يرتكبها الاحتلال الإسرائيلي كل يوم في قطاع غزة؟
على الرغم من الضغوطات الشديدة التي يتعرضون لها من الشرطة الأميركية: بعضها
تهديدات علنية وبعضها الآخر تهديدات مبطنة من جهات غير رسمية.
بالمقابل، لماذا لم يحدث في عالمنا العربي سيرورة تظاهرية لطلاب
الجامعات نصرة لأهالي غزة، ممن يشتركون معهم في التاريخ، واللغة، والدين،
والثقافة، والمصير الواحد، والعدو المشترك؟
كيف يمكن تفسير مستوى الحس الأخلاقي العال عند الطلاب الأميركيين
بمختلف انتماءاتهم الدينية والثقافية عندما يصرون على التظاهر حتى يوقف الاحتلال
الإسرائيلي
حربه على غزة؟ وكيف يمكن تفسير المستوى المعرفي والسياسي عند هؤلاء
الطلاب الذي رفعوا شعارات "
فلسطين من النهر إلى البحر" في تناقض مع
السردية الإسرائيلية التاريخية؟
ما هو الفارق، أو المتغير السببي في الحالتين؟
لن يهتم هذا المقال بقراءة المشهد داخل الجامعات الامريكية، بل ما
يهتم به هو الخلفيات الثقافية والسياسية التي أنتجت هذه الظاهرة.
بداية لنضرب مثالين عن العملية التعليمية في الولايات المتحدة:
ـ منذ عقود أخذت الجامعات الغربية تعتمد تجربة رابندرانات طاغور ـ
الفائز بجائزة نوبل للآداب عام 1913 ـ التعليمية، وهي عملية تركز على تطوير
التلميذ من خلال ممارسات الجدل السقراطي، والتعرض للعديد من الثقافات العالمية،
وضخ الموسيقي والفنون الجميلة، المسرح، والرقص في كل جزئية من المنهج.
ـ في عام 2005 حصل اعتكاف للمدرسين في المدرسة المخبرية بشيكاغو،
أجرى جون ديوي (لُقب بأبو الفلسفة التربوية) تجاربه في تحسين التعليم الديمقراطي:
اجتمع المدرسون لمناقشة موضوع التعليم للمواطنة الديمقراطية، وأخذوا بعين الاعتبار
تشكيلة واسعة من التجارب التعليمية، دارسين رموز تتفاوت من سقراط إلى ديوي في
التراث الغربي إلى أفكار طاغور المقاربة لهم في الهند.
هذا المثالان كافيان لإدراك الفارق الجوهري بين التعليم المدرسي
بيننا في العالم العربي وبين العالم الغربي.
من خلال هذين المثالين فقط يمكن إدراك المستوى المعرفي والسياسي
والأخلاقي والعلمي للطلبة، سواء في المرحلة المدرسية أو في المرحلة الجامعية.
ليست المدرسة ولا الجامعة مجرد تلقين معرفي جامد للمعلومات، بقدر ما
هي تجارب حياتية معرفية وقيمية، ومن هنا ذهبت عالمة الاجتماع الأمريكية مارثا
نوسباوم في كتابها الشهير "ليس للربح: لماذا تحتاج الديمقراطيات إلى
الإنسانيات؟" إلى أن العلوم الإنسانية (الأدب والفلسفة والتاريخ.. إلخ) تقدم
مساهمة كبيرة في نوعية المواطنة السياسية، إذ تنمي ثلاث قدرات حاسمة للمواطنة
الجيدة:
الأول، التمحيص الذاتي السقراطي، فالدورات في التفكير النقدي
والفلسفة تعلم المهارة الحاسمة للمفاوضة والتحليل التأملي، فيتعلم الناس فهم أسباب
دعمهم لهذه السياسة أو تلك يخلق هذا مساحة للتفاوض الحقيقي في ساحاتنا العامة الصاخبة جدا
بالمجمل، وتفضي إلى أن يحترم المرء خصومه، الذين لا يُنظر إليهم كمجرد أعداء، ولكن
كبشر لديهم أسبابا لما يعتقدون.
إن فضاء الديمقراطية ـ الليبرالية وفضاء المواطنة مع مستوى التعليم العالي ومؤسسات عقلانية متطورة، أدت كلها إلى نشوء جيل من الشباب لديه منظومة معرفية ـ قيمية متشابكة، بخلاف العالم العربي، حيث الاستبداد، وهدر كرامة الإنسان، وغياب حوامل اقتصادية، جعل الطلاب الشباب ليسوا في حالة اغتراب مجتمعي وسياسي فحسب، بل أفقدهم القدرة على الإحساس بالقضايا الإنسانية الكبرى التي تهمهم بشكل مباشر.
الثاني، تعلم الإنسانيات حسا من المواطنة العالمية، حيث ينقل التاريخ
حسا من التعقيد في كل أمة، بل أبعد من ذلك، حسا بالعالم أكمله.
الثالث، تغذي وتطور الإنسانيات الخيال السردي، الحس بما هو الشعور.
وتضرب نوسباوم أمثلة على التأثيرات السلبية لضعف العلوم الإنسانية في
التعليم، مستشهدة بدراسة خرجت من المجلس البريطاني عام 1995 ذكرت أن أغلب
المتطرفين القادمين من الشرق الأوسط هم خريجو طب أو هندسة، وبأن تدريسا كهذا يفشل
في دمج التفكير النقدي كما تفعل الإنسانيات، وهذا يؤدي إلى الخضوع والامتثال مما
يجعلهم يكتسبون ذهنية يمكن التلاعب والتحكم بها بسهولة.
من المفارقات الغريبة أن الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي دعا أهالي
الطلاب إلى عدم إرسالهم لكليات العلوم الإنسانية، وإرسالهم بدلا من ذلك إلى
الكليات العلمية التطبيقية، مثل البرمجة، تحت عنوان "حيشتغلوا إيه".
إنه ديدن الاستبداد الذي يرى التطور والتقدم الحضاري وفق الأرقام
والمنتجات المادية، فيما يرى أن توسع وتطور المعارف الإنسانية: الحقوقية،
الفلسفية، التاريخية تساهم في زعزعة الأنظمة الاستبدادية.
وبالتالي، لا يمكن رؤية حراك الجامعات الأمريكية إلا كثمرة مباشرة
لهذا التعليم ودوره في رفع مستوى الوعي بالقضايا الإنسانية العامة، وقد نلاحظ هنا
أن الحراك الجامعي الأمريكي حول غزة هو من أجل قضايا تحريرية عالمية ليست مرتبطة
بالشؤون الحياتية اليومية للطلاب.
إن فضاء الديمقراطية ـ الليبرالية وفضاء المواطنة مع مستوى التعليم
العالي ومؤسسات عقلانية متطورة، أدت كلها إلى نشوء جيل من الشباب لديه منظومة
معرفية ـ قيمية متشابكة، بخلاف العالم العربي، حيث الاستبداد، وهدر كرامة الإنسان،
وغياب حوامل اقتصادية، جعل الطلاب الشباب ليسوا في حالة اغتراب مجتمعي وسياسي
فحسب، بل أفقدهم القدرة على الإحساس بالقضايا الإنسانية الكبرى التي تهمهم بشكل
مباشر.
في عام 1990، أكد تقرير التنمية البشرية التابع للأمم المتحدة أن
التنمية البشرية لا تقتصر على مجالات الصحة والتعليم وغيرها من الخدمات الحياتية،
بل تشمل مجموعة من الإمكانات والقدرات، منها الحريات السياسية وحقوق الإنسان.